الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } * { هَـٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } * { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ } * { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّابِرِينَ } * { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }

وقوله سبحانه: { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ... } الآية: الخطابُ للمؤمنين، والمعنَىٰ: لا يذهب بكُمْ أنْ ظَهَرَ الكُفَّار المكذِّبون عليكم بِأُحُدٍ، فإن العاقبة للمتَّقين، وقديماً ما أدال اللَّه المُكَذِّبين على المؤمنين، ولكن ٱنْظُروا كيْفَ هلَك المكذِّبون بَعْدَ ذلك، فكذلك تكُونُ عاقبةُ هؤلاءِ، وقال النَّقَّاش: الخِطَابُ بـ { قَدْ خَلَتْ } للكُفَّار.

قال * ع *: وذلك قَلِقٌ، وخَلَتْ: معناه: مضَتْ، والسُّنَن: الطرائِقُ.

وقال ابنُ زَيْد: سُنَنَ: معناه: أمثال، وهذا تفسيرٌ لا يخُصُّ اللفظة، وقوله: { فَٱنظُرُواْ } هو عند الجمهورِ مِنْ نَظَر العَيْن، وقال قومٌ: هو بالفكْر.

وقوله تعالى: { هَـٰذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ } ، يريد به القُرآن؛ قاله الحَسَن وغيره، وقال جماعة: الإشارة بـ «هذا» إلى قوله تعالَىٰ: { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ }.

وقال الفَخْر: يعني بقوله: «هذا بيانٌ» ما تقدَّم؛ من أمره سبحانه، ونَهْيِهِ، ووعدِهِ، ووعيدِهِ، وذكرِهِ لأنواع البيِّنات والآيات. انتهى.

ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوَهَنِ، وهو الضَّعْف، وأنَّسهم بأنهم الأعلَوْنَ أصْحَابُ العاقبة، ومِنْ كَرَمِ الخُلُقِ ألاَّ يَهِنَ الإنسانُ في حربه، إذا كان مُحِقًّا، وإنما يحسن اللِّين في السِّلْم والرضَىٰ، ومنه قولُه صلى الله عليه وسلم: " المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ " ، وقوله سبحانه: { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } إخبار بعُلُوِّ كلمة الإسلام، هذا قول الجمهور، وهو ظاهر اللفظ.

قال * ص *: { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ }: في موضِعِ نصبٍ؛ على الحال.

وقوله سبحانه: { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }: المقصدُ هزُّ النفوسِ، وإقامتها، ويترتَّب من ذلك الطَّعْنُ علَىٰ من نجم في ذلك اليَوْم نِفَاقُهُ أو ٱضطربَ يقينه، أي: لا يتحصَّل الوعد إلاَّ بالإيمان، فٱلزموه، ثم قال تعالَىٰ؛ تسليةً للمؤمنين: { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } ، والأُسْوَةُ مسلاة للبَشَر؛ ومنه قول الخَنْسَاء: [الوافر]
وَلَوْلاَ كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي   عَلَىٰ إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِن   أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي
والقَرْح: القَتْل والجِرَاحْ؛ قاله مجاهدٌ وغيره.

وقوله تعالى: { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } ، أخبر سبحانه علَىٰ جهة التسلية؛ أنَّ الأيام علَىٰ قديم الدهر وغابِرِه أيضاً إنما جعلَهَا دُولاً بيْنَ البَشَر، أي: فلا تُنْكِرُوا أنْ يدَالَ عليكم الكفَّار.

وقوله تعالى: { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } ، تقديره: وليَعْلَم اللَّهُ الذين آمنوا فعل ذلك، والمعنَىٰ: ليظهر في الوجود إيمانُ الذين قَدْ علم اللَّه أزلاً؛ أنهم يؤمنون وإلاَّ فقد علمهم في الأزَلِ، { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ }: معناه أهْل فَوْز في سَبِيلِهِ، حسْبما وَرَدَ في فضائلِ الشهداءِ، وذَهَب كثيرٌ من العلماء إلى التَّعْبير عن إدَالَةِ المؤمنين بالنَّصْر، وعن إدالة الكُفّار بالإدالة، ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثٌ؛ " أنَّهُمْ يُدَالُونَ؛ كَمَا تُنْصَرُونَ " والتمحيصُ: التنقيةُ، قال الخليل: التَّمْحِيصُ: التخليص من العَيْب، فتمحيصُ المؤمنينَ هو تنقيتُهم منَ الذُّنُوب، والمَحَقُ: الإذهاب شيْئاً فشيْئاً؛ ومنه: مَحَاقُ القَمَر، وقوله سبحانه: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ.

السابقالتالي
2