الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } * { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

وقوله تعالى: { سَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ } ، قرأ نافعٌ، وابنُ عامِرٍ: سارعوا بغَيْر «واوٍ»؛ وكذلك هي في مصاحِفِ أهل المدينة والشام، وقرأ باقي السبعة بالواو، والمُسَارَعَة: المبادرةُ، وهي مفاعلة؛ إذ الناس كأن كلَّ واحِدٍ يُسْرِعُ لِيَصِلَ قبل غيره، فَبَيْنَهُمْ في ذلك مُفَاعَلَةٌ؛ أَلاَ تَرَىٰ إلى قوله تعالى:فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَٰتِ } [البقرة:148]، والمعنى: سارعوا بالطَّاعة، والتقوَىٰ، والتقرُّب إلى ربِّكم إلى حالٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فيها، قلْتُ: وحقٌّ علَىٰ مَنْ فَهِمَ كلامَ ربِّه؛ أنْ يبادر ويُسَارع إلى ما ندبه إلَيْه ربُّه، وألاَّ يتهاوَنَ بترك الفضائِلِ الواردَةِ في الشَّرّع، قال النوويُّ ـــ رحمه الله ـــ: ٱعْلَمْ أنه ينبغِي لِمَنْ بلغه شيْءٌ في فضائلِ الأعمال؛ أنْ يعمل به، ولو مَرَّةً؛ ليكون مِنْ أهله، ولا ينبغي أنْ يتركه جملةً، بل يأتي بما تيسَّر منه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتَّفَقِ علَىٰ صِحَّته: " وَإذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَٱفْعَلُوا مِنْهُ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ " انتهى من «الحِلْيَة».

وقوله سبحانه: { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوَاتُ وَٱلأَرْضُ } ، أي: كعرض السموات والأرض، قال ابنُ عبَّاس في تفسير الآية: تقرن السمواتُ والأرَضُونَ بعضها إلَىٰ بعض؛ كما تبسطُ الثيابُ، فذلك عَرْضُ الجَنَّة؛ ولا يَعْلَمُ طولَهَا إلا اللَّه سبحانه؛ وفي الحديثِ الصحيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَسَيَأْتِي عَلَيْهَا يَوْمٌ يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهَا كَمَا تَزْدَحِمُ الإبِلُ، إذَا وَرَدَتْ خُمُصاً ظِمَاءً " وفي الصحيح: " إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ المُجِدُّ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا " فهذا كلُّه يقوِّي قولَ ابْنِ عَبَّاسِ، وهو قولُ الجُمْهور: «إنَّ الجنَّة أَكْبرُ من هذه المخلوقاتِ المذْكُورة، وهي ممتدَّة على السَّماء؛ حيْثُ شاء اللَّه تعالَىٰ، وذلك لا يُنْكَرُ، فإن في حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ فِي الكُرْسِيِّ إلاَّ كَدَرَاهِمَ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، وَمَا الكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إلاَّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ". قال * ع *: فهذه مخلوقاتٌ أعظم بكثير جدًّا من السمواتِ والأرضِ، وقدرةُ اللَّه أعْظَمُ مِنْ ذلك كلِّه، قلتُ: قال الفَخْر وفي الآية وجْه ثانٍ؛ أنَّ الجنَّة التي عرضُها مثْلُ عَرْضِ السمواتِ والأرضِ، إنما تكونُ للرَّجُل الواحدِ؛ لأن الإنسان يَرْغَبُ فيما يكون مِلْكاً له، فلا بُدَّ أَنْ تصير الجَنَّة المملوكة لكلِّ أحد مقْدَارُها هكذا. اهـــ.

وقُدْرَةُ اللَّه تعالَىٰ أوسع، وفَضْلُه أعظم، وفي «صحيح مسلم»، والترمذيِّ، مِنْ حديث المُغَيرة بْنِ شُعْبَة (رضي اللَّه عنه): " في سُؤَال مُوسَىٰ رَبَّهُ عَنْ أَدْنَىٰ أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً، وَأَنَّهُ رَجُلٌ يَأْتِي بَعْدَ مَا يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَىٰ أَنْ يَكُونَ لَكَ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، أَيْ رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الخَامِسَةِ: رَضِيتُ، أيْ رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ ذَلِكَ، وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، فَيَقُولُ: رَضِيتُ، أَيْ رَبِّ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإنَّ لَكَ مَعَ هَذَا مَا ٱشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ "

السابقالتالي
2 3