الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } * { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } * { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }

وقوله تعالى: { إِنَّ قَـٰرُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ... } الآية، كان قارونُ مِنْ قرابةِ مُوسى: ممن آمن بموسى وحَفظَ التوراةَ وكَانَ عند مُوْسَى عليه السلام مِنْ عُبَّادِ الْمُؤمِنين، ثم إنَّ اللّه أضَلَّهُ وبَغَى عَلى قَوْمِهِ بأَنْوَاعِ البَغْيِ؛ مِنْ ذلكَ كُفْرُهُ بموسَى.

وقال الثَّعْلَبِيُّ: قال ابن المسيب: كانَ قارونُ عامِلاً لِفِرْعونَ عَلى بني إسرائيل؛ ممنْ يبغي عليهم ويظلُمهم. قال قتادةُ: بَغَى عليهم بِكَثْرَةِ مالِهِ وولدِه، انتهى.

* ت *: وما ذَكَرَهُ ابنُ المسيب، هو الذي يَصِحُّ في النظر لمتُأَمِّلِ الآيةِ، ولَوْلاَ الإطَالَةُ لَبَيَّنْتُ وَجْهَ ذَلِكَ، والمَفاتِحُ ظاهِرُها: أنها التي يُفْتَحُ بِها، ويحتمل أنْ يُرِيدَ بها: الخزائنَ والأوعيةَ الكبارَ؛ قاله الضحاك؛ لأنَّ المِفْتَحُ في كلام العرب الخِزَانَةُ، وأمَّا قَوله: { لَتَنُوءُ } فمعناه: تَنْهَضُ بتحامل واشتدادِ، قال كثير من المفسرين: إنَّ المرادَ: أن العُصْبةَ تَنُوءُ بالمفَاتِح المُثْقِلةِ لها فَقُلِبَ.

* قلت *: وقال: عريب الأندلسي في كتاب «الأَنواء» له نَوْءُ كذا؛ معناه: مُثلُه ومنه: { لتنوأُ بالعصبة } ، انتهى، وهو حَسَنٌ إنْ سَاعَدَهُ النَّقْلُ. وقالَ الدَّاوُودِيُّ عن ابن عباسٍ: { لتنوأُ بالعصبة أولى القوة } يقولُ تَثْقُلُ؛ وكذا قال الواحديُّ، انتهى. واخْتُلِفَ في العصبة: كمْ هُمْ؟ فقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه -: ثَلاثَةُ، وقال قتادةُ: هم من العشرة إلى الأربعين، قال البخاريُّ: يقال: الفَرِحينَ المَرِحينَ.

قال الغَزَالِيُّ: في «الإحْيَاءِ»: الفَرَحُ بالدنيا والتَّنَعُّمُ بِهَا سُمٌّ قَاتِلٌ يَسْرِي في العُرُوقِ؛ فَيُخْرِجُ مِن القَلْبِ الخوفَ والحَزَنَ وذِكْرَ الموتِ وأهوالَ القيامة؛ وهذا هو موتُ القلبِ والعياذُ باللّهِ، فأولوا الحَزْم من أربابِ القلوبِ جَرَّبُوا قلوبَهم في حال الفَرَحِ بمُوَاتَاةِ الدنيا، وعلموا أن النَّجَاةَ في الحُزْنِ الدائم، والتباعُدِ من أسبابِ الفَرَح، والبَطَرِ؛ فقَطَّعُوا النَّفْسَ عن ملاذِّها وعَوَّدُوها الصَّبْرَ عَنْ شَهَوَاتِها؛ حَلالِها وحَرَامِهَا وعلموا أن حلالَها حِسَابٌ وهُوَ نَوْعُ عذابٍ، وَمَنْ نُوقِشَ الحساب عُذِّبَ، فَخَلَّصُوا أَنْفُسَهُمْ من عَذابِهَا، وَتَوَصَّلُوا إلى الحرّية والملكِ في الدنيا والآخرة؛ بالخلاص من أسْرِ الشهواتِ وَرقِّها، والأنْسِ بِذِكْرِ اللّهِ تعَالَى والاشْتِغَالِ بِطَاعَتِه، انتهى.

قال ابن الحاجِّ في «المَدْخَلِ»: قال يَمَنُ بن رزق ـــ رحمه اللّه تعالى ـــ: وأنا أُوصيكَ بأن تُطِيلَ النظرَ في مِرْآةِ الفِكْرَةِ مَعَ كثرةِ الخَلَوَاتِ، حَتَّى يُرِيَكَ شَيْنَ المَعْصِيَةِ وَقُبْحِهَا، فَيَدْعُوكَ ذَلِكَ النَّظَرُ إلى تَركها، ثم قال يمن بن رزق: ولاَ تَفْرَحَنَّ بِكَثْرَةِ العَمل مع قلةِ الحزْنِ، واغْتَنِمْ قليلَ العَمَلِ مَعَ الحزنِ، فإن قليلَ حُزْنِ الآخرةِ الدَّائِمِ فِي القلبِ؛ يَنْفِي كُلَّ سُرُورِ ألفْتَهُ من سرورِ الدنيا، وقليلَ سرورِ الدنيا في القلبِ؛ يَنْفِي عنكَ جميعَ حُزن الآخِرَة. والحزنُ لا يصلُ إلى القلبِ إلاَّ مع تَيَقُّظِهِ؛ وَتَيَقُّظُهُ حَيَاتهُ، وسرورُ الدُّنيا لِغَيْرِ الآخرةِ لا يصلُ إلى القلب إلا مع غَفْلَتِه؛ وغفلةُ القَلْبِ مَوتُه، وعلامةُ ثَبَاتِ اليقِينِ في القَلْبِ اسْتِدَامَةِ الحُزْن فِيهِ.

السابقالتالي
2