الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ } * { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }

وقوله تعالى: { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ عِلْماً... } الآية، هذا ابتداءُ قصَصٍ فيه غيُوبٌ وعَبَرٌ.

{ وَوَرِثَ سُلَيْمَـٰنُ دَاوُدَ } ، أي: ورثَ مُلكَه وَمنزِلَتَهُ من النبوَّة؛ بعدَ موتِ أبيهِ، وقوله: { عُلِّمنَا مَنْطِقَ الطَّيرِ } إخارٌ بنعمةِ اللّه تعالى عندهما؛ في اَّنَّ فَهَّمهُمَا مِنْ أصواتِ الطير المعانيَ التي في نفوسِها، وهذا نحو ما كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْحِجَارَةِ بالسَّلاَمِ عَلَيْهِ؛ وغير ذلك حسب ما هو في الآثار.

قال قَتَادَةُ وغيره: إنَّمَا كان هذا الأمرُ في الطيرِ خاصةً، والنملةُ طائِرٌ؛ إذ قد يوجَدُ لَهَا جَنَاحَان.

وقالت فُرقَةٌ: بل كَانَ ذَلِكَ في جَمِيعِ الحيَوانِ؛ وإنما خَصِ الطيرَ؛ لأْنَّه كان جُنداً من جنودِ سليمان؛ يحتاجُهُ في التَّظلِيلِ من الشَّمس؛ وفي البَعْثِ في الأمور. والنَّمْلُ حيوانُ فَطِنٌ قويٌّ شَمَّامٌ جِدّاً؛ يدَّخِرُ ويتخذُ القِرَىٰ وَيَشُقُّ الحَبَّ بقطعتينِ لِئَلاَّ يُنْبِتَ، ويشُقَّ الكزبرةَ بأربعِ قطعٍ؛ لأَنها تُنْبِت إذاً قُسِّمَتْ شقينِ، ويأكلُ في عامِهِ نصفَ مَا جمعَ، ويَسْتَقِي سائِرَهُ عُدَّةً. قال ابن العربي في «أحكامه»: ولا خلافَ عندَ العُلَمَاءِ في أَنَّ الحيواناتِ كلَّها لَهَا أفهامٌ وعقولٌ، وقد قال الشافعيُّ: الحمَامُ أعقلُ الطَّيرِ، انتهى.

وقوله: { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } معناه: يَصْلُحُ لنا ونَتَمَنَّاهُ؛ ولَيستْ على ٱلعُمومِ. ثُمَّ ذَكَرَ شُكْرَ فَضلِ اللّه تعالى، واخْتُلِفَ في مقدار جُنْدِ سُليمانَ عليه السلام اختلافاً شديداً؛ لا أرَى ذكرَه؛ لعَدَمِ صحةِ التَّحدِيدِ، غيرَ أنَّ الصَّحِيحَ في هذا أنَّ مُلكَه كَانَ عَظيماً مَلأَ الأَرْضَ، وٱنْقَادَتْ له المعمُورةُ كُلُّها، وَكَانَ كُرسيُّه يَحملُ أجْنَادَه من الأنسِ والجنِّ، وكانتِ الطيرُ تُظِلُّه منَ الشَّمسِ، ويبعَثُها في الأمور، و { يُوْزَعُونَ } مَعناهُ: يَرُدُّ أولهُم إلى آخرهم، ويكُفُّونَ، قال قَتَادَةُ: فكأنَّ لِكُلِّ صَنْفٍ وَزْعَةً، ومنه قَوْلُ الحسنِ البصريِّ حين وَلِيَ قضَاءَ البَصْرَةِ: لا بدَّ للحَاكِم من وَزْعَةً، ومنه قَوْلُ أبي قُحَافَةَ للجاريةِ: ذلك يا بُنَيَّةُ الوازِع؛ ومنه قولُ الشاعر: [الطويل]
عَلَىٰ حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا   فَقُلْتُ: أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ
أي: كافٌّ، وهَكَذا نقل ابنُ العربيِّ عن مَالكٍ؛ فقال: { يُوزَعُونَ } أي: يُكَفَّونَ.

قال ابن العربي: وقد يكُونُ بمعنى يُلهَمُونَ؛ من قوله { أَوْزِعْنِي أن أَشكُرَ نعمَتَكَ } أي: ألْهِمني، انتهى من «الإِحكام».