الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } * { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } * { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } * { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } * { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ }

وقوله سبحانه: { حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَـٰلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } { حَتَّى } في هذا الموضع حَرْفُ ابتداءٍ، والضمير في قوله: { أَحَدَهُمُ } للكفار، وقوله: { ٱرْجِعُونِ } أي: إلى الحياة الدنيا، والنون في: { ٱرْجِعُونِ }: نونُ العَظَمَةِ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: " إذَا عَايَنَ المُؤْمِنُ المَوْتَ، قَالَتْ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ: نُرْجِعُك؟ فيقول: إلى دَارِ الهُمُومِ وَالأَحْزَانِ؟ بل قُدُماً إلى اللّهِ، وأَمَّا الكَافِرُ، فَيَقُولُ: { ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً } "

وقوله: { كلا }: رَدٌّ وزجر.

وقوله: { إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } تحتمل ثلاثة معانٍ:

أحدها: الإخبارْ المُؤكّدُ بأنَّ هذا الشيء يقع، ويقولُ هذه الكلمة.

الثاني: أنْ يكون المعنى: إنها كلمة لا تغني أكثر من أَنَّه يقولها، ولا نفعَ له فيها ولا غَوْثَ ـــ الثالث: أنْ يكون إشارةً إلى أَنَّهُ لو لو رُدَّ لعاد، والضمير في: { وَرَآئِهِم } للكفار، والبرزخ في كلام العرب: الحاجز بين المسافتين، ثَم يُسْتَعَارُ لما عدا ذلك، وهو هنا: للمُدَّةِ التي بين موت الإنسان وبين بعثه؛ هذا، إجماعٌ من المفسرين.

وقوله عز وجل: { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَـٰبَ بَيْنَهُمْ... } قال ابن مسعود وغيرُه: هذا عند النفخة الثانية وقيامِ الناس من القُبُورِ؛ فهم حينئذٍ لهول المَطْلَعِ واشتغال كل امرىء بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائلُ، وزال انتفاعُ الأنساب؛ فلذلك نفاها سبحانه، والمعنى: فلا أنسابَ نافعةٌ، ورُوِيَ عن قتادَة أَنَّهُ: ليس أَحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم مِمَّن يَعْرِفُ، لأَنَّهُ يخاف أَنْ يكونَ له عنده مَظْلِمَةٌ، وفي ذلك اليوم يَفِرُّ المرء من أخيه؛ وأُمِّهِ وأبيه؛ وصاحبتِهِ وبَنِيْهِ، ويفرحُ كلُّ أحد يومئذٍ أنْ يكون له حَقُّ على ابنه وأبيه، وقد وَرَدَ بهذا حديثٌ، وكأنّ ارتفاع التساؤل لهذه الوجوه، ثم تأتي في القيامة مواطنُ يكون فيها السؤال والتعارف.

قال * ع *: وهذا التأويل حَسَنٌ، وهو مرويُّ المعنى عن ابن عباس، وذكر البزَّارُ من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالْمِيزَانِ، فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ، فَيُوقَفُ بَيْنَ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ، فَإنْ ثَقُلَ مِيزانُهُ، نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمَعُ الخَلاَئِقَ: سَعِدَ فُلاَنٌ سَعَادَةً لاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَداً، وَإنْ خَفَّ مِيزَانُهُ، نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلاَئِقَ: شَقِيَ فُلاَنٌ شَقَاوَةً لاَ يَسْعَدُ بَعْدَهَا أبداً " ، انتهى من «العاقبة». وروى أبو داودَ في «سننه» عن عائشة رضي اللّه عنها أَنَّها ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذكُرُونَ أَهْلِيَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أَمَّا في ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ، فَلاَ يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَداً، عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَم: أَيِخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الكِتَابِ حَتَّى يَقُولَ: { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَه } [الحاقة:19]، حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يُعْطَى كِتَابَهُ: أفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شَمَالِهِ، أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ، إذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَي جَهَنَّمَ "

السابقالتالي
2