الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } * { إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى } * { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ } * { إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } * { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىۤ } * { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ }

وقوله سبحانه: { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدىً } هذا الاِسْتفهام توقيفٌ مضمنه: تَنْبِيه النفس إلى ٱسْتماع ما يورد عليها، وهذا كما تبدَأُ الرجل إذا أَردْتَ إخْبَارَه بأَمْرٍ غَرِيبٍ؛ فتقول: أعلمْتَ كذا، وكذا، ثم تبدأ تخبره.

وكان من قصّة مُوسَىٰ - عليه السلام - أنه رحل من مَدْيَن بأهله بِنْت شُعَيْب - عليه السلام - وهو يريدُ أَرض مِصْر، وقد طالت مُدَّة جِنَايته هُنَالِكَ، فَرَجَا خَفَاءَ أمْره، وكان فيما يزعمون رَجُلاً غَيُوراً، فكان يَسِيرُ الليلَ بأهْلِهِ، وَلاَ يَسِيرُ بالنهار مخافةَ كشفة الناسِ، فَضَلَّ عن طريقه في لَيْلَةٍ مُظْلمة، فبينما هو كذلك، وقد قَدَحَ بزنده، فلم يُورِ شَيْئاً { إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ } ، أيْ: أقِيموا، وذهب هو إلى النار، فإذا هي مُضْطَرِمةٌ في شَجَرةٍ خَضْرَاءَ يانِعةٍ، قيل: كانت من عُنَّابٍ، وقِيلَ: من عَوْسَج، وقِيلَ: من عُلَّيْقٍ، فكلَّما دَنَا مِنْها، تباعَدَتْ منه، ومَشَتْ فإذا رجع عنها اتَّبعَتْهُ، فلما رأَى ذَلِكَ أَيقنَ أَنَّ هذا مِنْ أُمُورِ اللّه الخَارِقَةِ للعادة، ونُودِي، وٱنْقَضَىٰ أَمْرُه كُلّه في تلك الليلة؛ هذا قول الجُمْهُورِ، وهو الحقُّ، وما حُكِيَ عن ابنِ عباسٍ: أنَّه قال: أَقامَ في ذلك الأَمْرِ حَوْلاً، فغيرُ صَحِيحٍ عن ابن عباس.

و { آنَسْتُ }: معناه: أَحْسَسْتُ، والقَبَسُ: الجذْوةُ من النار، تكون على رَأْس العُودِ.

والهُدَى: أراد هُدَى الطريقِ، أَيْ: لعلي أَجِدُ مرشداً لي، أوْ دليلاً.

وفي قِصَّة مُوسَىٰ بأسْرها في هذه السورة تسْلِيةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم عما لَقِيَ في تَبْلِيغه من المَشَقَّاتِ صلى الله عليه وسلم والضميرُ في قوله: { أتَاهَا }: عائِدٌ على النار.

وقوله: «نُودي»: كنايةٌ عن تَكْلِيم اللّه تعالى له (عليه السلام).

وقرأَ نَافِعٌ وغيرُه: إنِّي ـــ بكسر الهمزة ـــ على الابْتداءِ، وقرأَ أَبُو عَمْرو، وٱبْنُ كَثِير: «أَنِّي» ـــ بفتحها ـــ على معنى: لأَجل أَنِّي أَنا رَبُّك، فَاخْلَعْ نعليك.

واخْتُلِفَ في السبب الذي مِنْ أَجْله أُمِرَ بخلْعِ النعلين: فقالتْ فِرْقَةٌ: كَانَتَا من جِلْد حَمِارٍ مَيِّتٍ، فأُمِرَ بِطَرْحِ النَّجَاسَةِ.

وقالت فرقةٌ: بل كَانَتْ نَعْلاَهُ مِنْ جِلْدِ بقَرَةٍ ذَكِيّ؛ لكن أُمِر بخلعهما لينَالَ بركَةَ الوَادِي المُقدَّسِ، وتمَسَّ قَدَماهُ تُرْبَةَ الوَادِي.

قال * ع *: وتحتمل الآيةُ مَعْنًى آخَرَ، هو الأَليقُ بها عِنْدِي؛ وهو: أَن اللّه تعالى أمرَه أنْ يتأدَّبَ، ويتَوَاضَعَ؛ لعظم الحَالِ الَّتي حَصَلَ فيها، والعُرْف عِنْد المُلُوكِ: أَنْ تُخلَعَ النَّعْلاَنِ، ويبلغُ الإنْسان إلَى غاية تَوَاضُعِهِ، فكأَنَّ مُوسَىٰ - عليه السلام - أُمِر بذلك عَلَى هذا الوجه، وَلاَ نُبَالِي كيفَ كَانَتْ نَعْلاَهُ من ميتة أوْ غيرها.

و { ٱلْمُقَدَّسِ }: معناه المطهَّرُ، و { طُوىً }: معناه مَرَّتَيْنِ.

السابقالتالي
2