الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }

وقوله تعالَىٰ: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا... } الآية: خبرُ جزمٍ نصَّ علَىٰ أنَّه لا يكلِّف اللَّه العبادَ مِنْ وقْتِ نزولِ الآيةِ عبادةً مِنْ أَعمالِ القَلْب والجوارحِ إِلاَّ وهِيَ في وُسْعِ المكلَّف، وفي مقتضى إِدراكه وبنيته، وبهذا ٱنكشفَتِ الكُرْبَةُ عن المسلِمِينَ في تأوُّلهم أمْر الخواطِرِ، وهذا المعنَى الذي ذكَرْناه في هذه الآية يَجْرِي مع معنَىٰ قوله تعالى:يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [البقرة:185] وقوله تعالى:وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج:78] وقوله:فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن:16]، قال العراقيُّ: { وُسْعَهَا } ، أي: طاقتها. اهـــ.

قال: * ع *: واختلف النَّاسُ في جوازِ تكليفِ ما لا يُطَاقُ في الأحكامِ الَّتي هي في الدُّنْيا بعد ٱتفاقِهِمْ علَىٰ أنَّه ليس واقعًا الآنَ في الشَّرْعِ، وأنَّ هذه الآية آذَنَتْ بعدمه، وٱختلف القائلُونَ بجوازِهِ، هل وَقَعَ في رسالةِ سَيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم أمْ لاَ؟

فقالَتْ فرقة: وقَعَ في نازلةِ أبِي لَهَبٍ؛ لأنه حَكَم علَيْه بتَبِّ اليدَيْنِ، وصَلْيِ النَّارِ؛ وذلك مُؤْذِنٌ أنه لا يؤْمِنُ، وتكليفُ الشرْعِ له الإِيمان راتب، فكأنه كُلِّف أنْ يؤمِنَ، وأنْ يكون في إيمانه أنَّه لا يؤمن؛ لأنه إِذا آمَن، فلا محالة أنْ يُدَيَّنَ بسورة: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ }.

وقالتْ فرقةٌ: لم يقَعْ قطُّ، وقوله تعالَىٰ:سَيَصْلَىٰ نَاراً } [المسد:3] إِنما معناه: إِن وافَىٰ على كفره.

* ع *: وما لا يطاقُ علَىٰ أقسامٍ:

منه المُحَالُ عقْلاً؛ كالجمْعِ بين الضِّدَّيْن، ومنْه المُحَالُ عادَةً؛ كرفع إِنسانٍ جبلاً، ومنْه ما لا يطاقُ مِنْ حيث هو مُهْلِكٌ؛ كالاِحتراقِ بالنارِ، ونحوه، ومنه ما لا يطاقُ لِلاِشتغالِ بغَيْره، وهذا إِنما يقال فيه مَا لاَ يطاقُ عَلَىٰ تجوُّزٍ كثيرٍ.

وقوله تعالى: { لَهَا مَا كَسَبَتْ } ، يريدُ: من الحسناتِ، { وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } ، يريد: من السِّيِّئاتِ؛ قاله جماعة المفسِّرين؛ لا خلاف في ذلك، والخواطُر ونحوها ليس من كَسْب الإنسان، وجاءت العَبَارةُ في الحَسَنَاتِ بـــ «لَهَا»؛ من حيثُ هي مما يفرح الإِنسان بكسبه، ويسر المرء بها، فتضاف إِلى ملكه، وجاءَتْ في السيئة بـــ «عَلَيْهَا»؛ من حيث هي أوزارٌ، وأثقال، ومتحَملاَتٌ صعْبَةٌ؛ وهذا كما تقول: لي مالٌ، وعليَّ دَيْنٌ، وكرَّر فعْلَ الكَسْب، فخالف بين التصريفَيْن حسنًا لنمط الكلامِ؛ كما قال:فَمَهِّلِ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [الطارق:17] هذا وجه.

* ع *: والذي يظهر لِي في هذا أنَّ الحسناتِ ممَّا يكسب دُونَ تكلُّف؛ إِذ كاسبُها علَىٰ جادَّة أمر اللَّه، ورسْمِ شرعه، والسيِّئَاتُ تُكْتَسَبُ؛ ببناءِ المبالغة؛ إِذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خَرْقَ حجابِ نَهْيِ اللَّه تعالَىٰ، ويتخطَّاه إِلَيْها، فيحسن في الآية مجيءُ التصريفَيْن لهذا المعنى.

وقال المهدويُّ وغيره: معنى الآيةِ: لاَ يُؤَاخَذُ أحدٌ بذَنْبِ أحدٍ؛ قال: * ع *: وهذا صحيحٌ في نفسه، لكن من غير هذه الآية.

السابقالتالي
2