الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } * { للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ }

وقوله تعالى: { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ... } الآية: لما ذكر اللَّه تعالى الندْبَ إِلى الإِشهاد، والكتْبِ؛ لمصلحة حفظ الأموال والأديان ـــ عقَّب ذلك بذكْر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل بدلها الرهْنَ، ونصَّ على السفر؛ إِذ هو الغالب من الأعذار، ويدخل في ذلك بالمعنَىٰ كلُّ عذر.

قال: * ع *: رَهَنَ الشَّيْءَ؛ في كلام العرب معناه: دَامَ، وٱستمرَّ، قيل: ولما كان الرهنُ بمعنى الثبوتِ، والدوامِ، فمِنْ ثَمَّ بطَل الرهْنُ؛ عند الفقهاء: إِذا خرج مِنْ يد المرتَهِن إِلى يد الراهِنِ؛ لأنه فَارَقَ ما جُعِلَ له.

وقوله تعالى: { مَّقْبُوضَةٌ }: هي بينونةُ المرتَهَنِ بالرَّهْن.

وأجمع الناس علَىٰ صحَّة قَبْض المرتَهَن؛ وكذلك علَىٰ قبض وكيله؛ فيما علمتُ.

واختلفوا في قَبْض عدلٍ يوضَعُ الرهْنُ على يدَيْه.

فقال مالك، وجميعُ أصحابه، وجمهور العلماء: قَبْض العَدْل قبضٌ.

وقال الحَكَم بن عُتَيْبَةَ، وغيره: ليس بقَبْض.

وقولُ الجمهورِ أصحُّ؛ من جهة المعنى في الرهن.

وقوله تعالى: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا }: شرطٌ ربَطَ به وصيَّةَ الذي علَيْه الحقُّ بالأداء.

قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: قوله تعالى: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا }: معناه: إن أسقط الكَتْبَ، والإِشهادَ، والرَّهْنَ، وعوَّل على أمانة المعامَلِ، فليؤدِّ الأمانةَ، وليتَّقِ اللَّه ربَّه؛ وهذا يبيِّن أنَّ الإِشهاد ليس بواجبٍ؛ إِذ لو كان واجباً، لما جاز إِسقاطه، ثم قال: وجملة الأمر أنَّ الإِشهاد حزْم، والاِئتمانَ ثقةٌ باللَّه تعالَىٰ من الدائنِ، ومروءةٌ من المِدْيَان، ثم ذكر الحديثَ الصحيحَ في قصَّة الرَّجُل من بني إِسرائيل الذي استسْلَفَ ألْفَ دينارٍ، وكيف تَعَامَلاَ علَىٰ الٱئتمانِ، ثم قال ابنُ العربيِّ: وقد رُوِيَ عن أبي سعيد الخدريِّ؛ أنه قرأ هذه الآية، فقال: هذا نسخ لكلِّ ما تقدَّم، يعني: من الأمر بالكَتْب، والإِشهاد، والرهن. اهـــ.

وقوله: { فَلْيُؤَدِّ }: أمر بمعنى الوجوبِ، وقوله: { أَمَـٰنَتَهُ }: مصْدَرٌ سُمِّيَ به الشيْء الذي في الذمَّة.

وقوله تعالى: { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ... } الآية: نهي فيه تهديدٌ ووعيدٌ، وخص تعالَىٰ ذكْر القَلْب؛ إذ الكَتْم من أفعاله، وإِذ هو البُضْعَةُ التي بصلاحها يصْلُحُ الجَسَدُ كُلُّه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم، وفي قوله تعالى: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } توعُّدٌ، وإِنْ كَانَ لفظُها يعمُّ الوعيدَ والوَعْدَ.

وروى البَزَّارُ في «مسنده»، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَشَىٰ إِلَىٰ غَرِيمِهِ بِحَقِّهِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ دَوَابُّ الأَرْضِ، وَنُونُ المَاءِ، ونَبَتَتْ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ شَجَرَةٌ، تُغْرَسُ فِي الجَنَّةِ، وَذَنْبُهُ يُغْفَرُ " اهـــ من «الكوكب الدري».

قوله تعالى: { للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ... } الآية: المعنَىٰ: جميعُ ما في السمواتِ، وما في الأرض مِلْكٌ له سُبْحَانَهُ.

وقوله تعالى: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ... } الآية: قوله: { مَا فِي أَنفُسِكُمْ } يقتضي قوَّةُ اللفظ أنَّه ما تقرَّر في النفْسِ، وٱستصحبتِ الفكْرةَ فيه، وأما الخواطر التي لا يُمْكِنُ دفْعُها، فليسَتْ في النفْسِ، إِلا علَىٰ تجوُّز.

السابقالتالي
2 3