الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } * { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

وقوله تعالى: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ... } الآية: وَرَدَتْ آثار أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَعَ فُقَرَاء أهْلِ الذمَّة من الصَّدَقَة، فنزلَتِ الآية مبيحةً لهم، وذكر الطبريُّ؛ أن مَقْصِدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْعِ الصدَقة، إِنَّما كان ليُسْلِمُوا، ولِيَدْخُلُوا في الدِّين، فقال اللَّه سبحانه: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } ، قال: * ع *: وهذه الصدقةُ التي أبيحَتْ لهم حسبَمَا تضمَّنته هذه الآثار، إِنما هي صدقة التطوُّع، وأما المفروضة، فلا يجزىء دفعها لكَافِرٍ، قال ابن المُنْذِرِ: إِجماعاً فيما عَلِمْتُ، وقول المَهْدَوِيِّ: إباحتها هذه الآية مردودٌ، قال ابن العَرَبِيِّ، وإِذا كان المُسْلِمُ يترك أركان الإِسْلاَم من الصَّلاة، والصيام، فلا تُصْرَفُ إِلَيْه الصدقة؛ حتَّىٰ يتُوبَ، وسائرُ المعاصِي تُصْرَف الصدَقَةُ إِلَىٰ مرتكبيها؛ لدخولِهِمْ في ٱسم المسلمين. انتهى من «الإِحكام»، ويعني بالصدقةِ المفروضةَ، والهدى الَّذي ليس على نَبيِّنا صلى الله عليه وسلم هو خَلْق الإِيمان في قلوبهم، وأما الهُدَى الذي هو الدعاءُ، فهو علَيْه صلى الله عليه وسلم، وليس بمراد في هذه الآية.

ثم أخبرَ سُبْحَانه؛ أنه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وفي الآية ردٌّ على القدريَّة وطوائفِ المعتزلةِ، ثم بيَّن تعالَىٰ؛ أنَّ النفقة المقبولَةَ ما كان ابتغاءَ وَجْهِ اللَّهِ.

وفي الآية تأويلٌ آخرُ، وهو أنها شهادة مِنَ اللَّهِ تعالَىٰ للصحابةِ؛ أنهم إِنما ينفقون ابتغاءَ وَجُه اللَّه سبحانه، فهو خَبَر منه لهم فيه تفضيلٌ، { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ، أي: في الآخرة، وهذا هو بيانُ قوله: { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ } ، والخير هنا: المالُ؛ بقرينة الإِنفاق، ومتَىٰ لم يقترن بما يدلُّ على أنَّه المال، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال، وهذا الذي قلْناه تحرُّزاً من قول عِكْرِمَةَ: كُلَّ خَيْرٍ في كتابِ اللَّهِ، فهو المالُ.

وقوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ... } الآية: التقديرُ: الإِنفاق أو الصدقةُ للفقراءِ، قال مجاهد وغيره: المرادُ بهؤلاءِ الفقراءِ فقراءُ المهاجرينَ من قريشٍ وغيرهم.

* ع *: ثم تتناول الآيةُ كلَّ مَنْ دخل تحْتَ صفة الفَقْر غابِرَ الدَّهْر، ثم بيَّن اللَّه سبحانه من أحْوَالِ أولئك الفقراءِ المهاجِرِينَ ما يُوجِبُ الحُنُوَّ عليهم بقوله: { ٱلَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } ، والمعنَىٰ: حُبِسُوا، ومُنِعُوا، وتأوَّل الطبريُّ في هذه الآية؛ أنهم هم حَابِسُوا أَنُفُسِهِمْ بِرِبْقَة الدِّيْن، وقصد الجهاد، وخَوْفِ العَدُوِّ، إِذ أحاط بهم الكُفْر، فصار خوف العدو عذْراً أحْصِروا به.

* ع *: كأنَّ هذه الأعذار أحصرتْهم، فالعدُوُّ وكلُّ محيطٍ يحصر، وقوله: { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } يحتملُ الجهادَ، ويحتمل الدخولَ في الإِسلام، والضَّرْبُ في الأرض: هو التصرُّف في التجارة، وكانُوا لا يستطيعونَ ضَرْباً في الأرض؛ لكون البلادِ كلِّها كفْراً مطبقاً، وهذا في صدْر الهجْرة، وكانوا - رضي اللَّه عنهم - من الٱنقباضِ، وترْكِ المسألةِ، والتوكُّلِ على اللَّه تعالَىٰ؛ بحيث يحسبهم الجاهلُ بباطنِ أحوالهم أغنياءَ.

السابقالتالي
2 3