الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }

وقوله تعالى: { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمُ ٱبْتِغَاء مَرْضَاتِ ٱللَّهِ... } الآية: من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكْرُ نقيضِ ما يتقدَّم ذكره؛ ليتبيَّن حال التضادِّ بعرضها على الذهْن، ولما ذكر اللَّه صدقاتِ القوم الذين لا خَلاَق لصدَقَاتهم، ونَهَى المؤْمنين عن مواقَعَة ما يشبه ذلك بوَجْهٍ مَّا، عَقَّبَ في هذه الآية بذكْرِ نفقاتِ القَوْم الذين بذَلُوا صدقاتِهِمْ علَىٰ وجْهها في الشرع، فضرب لها مثلاً، وتقدير الكلام: ومَثَلُ نفقةِ الذين ينفقون كَمَثَلِ غارِسِ جَنَّة، أو تقدِّر الإِضمار في آخر الكلام، دون إِضمار في أوله؛ كأنه قال: كَمَثَلِ غارِسِ جَنَّةِ - وابتغاء: معناه طلب، وهو مصدر في موضع الحالِ - وتَثْبِيتاً: مصدر، ومَرْضَاة: مصدر من: رَضِيَ.

قال: * ص *: { ٱبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتًا } كلاهما مفعولٌ من أجله، وقاله مكِّيٌّ، وردَّه ابن عَطيَّة؛ بأن ٱبتغاءَ: لا يكون مفعولاً من أجله، لعطف: «وَتَثْبِتاً» عليه، ولا يصحُّ في «تثبيت» أنْ يكون مفعولاً من أجله؛ لأنَّ الإِنفاق ليس من أجل التثبيت؛ وأجيب: بأنه يمكن أنْ يقدَّر مفعولُ التثبيت الثوابَ، أي: وتحصيلاً لأنفسهم الثوابَ علَىٰ تلك النفقة؛ فيصحّ أنْ يكون مفعولاً من أجله، ثم قال أبو حَيَّان، بعد كلام: والمعنى أنَّهم يُثَبِّتُونَ من أنفسهم على الإِيمان، وما يرجُونه من اللَّه تعالَىٰ بهذا العمل. انتهى.

قال قتادة وغيره: { وَتَثْبِيتًا }: معناه: وتيقُّناً، أي: أنَّ نفوسهم لها بصائرُ متأكِّدة، فهي تثبتهم على الإِنفاق في طاعة اللَّه تثبيتاً، وقال مجاهد والحَسَن: معنى قوله: { وَتَثْبِيتًا } ، أي: أنهم يتثبَّتون، أين يَضَعُونَ صَدَقَاتِهِمْ.

قال الحَسَن: كان الرجُلُ، إِذا هَمَّ تثبَّت؛ فإِنْ كان ذلك لِلَّه أمضاه، وإِنْ خالَطَهُ شيْء أَمْسَك.

والقولُ الأول أصوبُ؛ لأن هذا المعنى الذي ذهب إِليه مجاهدٌ، والحسنُ إِنما عبارته: «وتَثْبِيتاً»، فإِنَّ قال محتجٌّ: إِن هذا من المصادر الَّتِي خُرِّجَتْ علَىٰ غير الصَّدْر؛ كقوله تعالى:وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل:8]وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح:17] فالجوابُ: أنَّ هذا لاَ يسُوغُ إلاَّ مع ذِكْر الصدرِ، والإِفصاحِ بالفعْلِ المتقدِّم للمصدر، وأمَّا إِذا لم يقع إِفصاحٌ بفعْلٍ، فليس لك أنْ تأتي بمصدر في غير معناه، ثم تقول: أحمله علَىٰ فعْلِ كذا وكذا؛ لفعلٍ لم يتقدَّم له ذكْرٌ، هذا مَهْيَعُ كلامِ العربِ فيما علمتُ.

والرَّبْوَةُ: ما ارتفع من الأرض ٱرتفاعاً يسيراً معه في الأغلب كثافةُ الترابِ وطِيبُهُ وتعمُّقه، وما كان كذلك، فنباتُه أحْسَنُ.

ولفظ الرَّبْوَة: مأخوذ من: رَبَا يَرْبُو، إِذا زاد، وآتَتْ: معناه أعطت، والأُكُل؛ بضم الهمزة: الثمر الَّذي يُؤْكَل، والشيء المأْكُول مِنْ كُلِّ شيء، يقال له: أُكُل، وإِضافته إِلى الجنَّة إِضافة ٱختصاصٍ؛ كَسَرْج الدَّابَّة، وبابِ الدَّارِ، وضِعْفَيْن: معناه ٱثْنَيْنِ مِمَّا يظن بها، ويُحْزَر من مثلها.

ثم أكَّد سبحانه مدْحَ هذه الربوة؛ بأنها إِنْ لم يصبْها وابلٌ، فإِن الطَّلَّ يكفيها، وينوبُ مناب الوابِلِ؛ وذلك لكَرَمِ الأرض، والطَّلُّ: المستدَقُّ من القَطْرِ، قاله ابن عبَّاس وغيره، وهو مشهورُ اللغة، فشبه سبحانه نُمُوَّ نفقاتِ هؤلاء المُخْلِصِينَ الذين يُرْبِي اللَّه صدقاتِهِمْ؛ كتربية الفَلُوِّ والفصيلِ؛ حسب الحديثِ بنموِّ نباتِ هذه الجنة بالرَّبْوَة الموصُوفةِ، وذلك كلُّه بخلافِ الصَّفْوان، وفي قوله تعالى: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }: وعد ووعيد.

السابقالتالي
2