الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

قوله تعالى: { لا إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ }: الدِّينُ، في هذه الآية: هو المُعْتَقَدُ، والمِلَّة، ومقتضى قولِ زَيْدِ بن أسْلَمَ أن هذه الآية مكِّيَّة، وأنها من آيات الموادَعَة الَّتي نسخَتْها آية السَّيْف، وقال قتادةُ والضَّحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ: هذه الآية مُحْكَمَةٌ خاصَّة في أهل الكتاب الذينَ يبذُلُون الجزْيَة، وقوله تعالى: { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ }: معناه: بنصب الأدلَّة، ووجودِ الرسُول صلى الله عليه وسلم الدَّاعِي إِلى اللَّه، والآياتِ المُنيرة، والرُّشْدُ: مصْدَر من قولك: رَشِدَ؛ بكسر الشين، وضَمِّها، يَرْشُدُ رُشْداً، ورَشَداً، ورَشَاداً، والغيُّ مصدر من: غَوِيَ يَغْوَىٰ، إِذا ضلَّ في معتقد، أو رأْيٍ، ولا يُقَال: الغيُّ في الضلال على الإِطلاق، والطَّاغُوتَ بنَاءُ مبالغةٍ من: طَغَىٰ يَطْغَىٰ، واختلف في مَعْنى الطَّاغوت، فقال عُمَر بْنُ الخَطَّاب وغيره: هو الشَّيْطَان، وقيل: هو السَّاحِر، وقيل: الكَاهِنُ، وقيل: الأصْنَام، وقال بعضُ العلماء: كُلُّ ما عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فهُوَ طَاغُوتٌ.

* ع *: وهذه تسميةٌ صحيحة في كلِّ معبودٍ يرضى ذلك؛ كفرعَوْنَ ونُمْرُوذ، وأما مَنْ لا يرضَىٰ ذلك، فسمي طاغوتاً في حقِّ العَبَدَةِ، قال مجاهد: العروةُ الوثقَى: الإِيمانُ، وقال السُّدِّيُّ: الإِسلام، وقال ابن جُبَيْر وغيره: لا إِله إِلا الله.

قال: * ع *: وهذه عباراتٌ تَرْجِعُ إِلى معنًى واحدٍ.

والاِنْفِصَامُ: الاِنكسارُ من غَيْر بَيْنُونَةٍ، وقد يجيءُ بمعنى البَيْنُونة، والقَصْم كسر بالبينونة.

* ت *: وفي «الموطَّإ» عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الوَحْيَ يَأْتِينِي أَحْيَاناً فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ " قال أبو عُمَر في «التمهيد»: قوله: «فَيَفْصِمُ عَنِّي»: معناه: ينفرجُ عنِّي، ويذهب؛ كما تفصمُ الخلخال، إِذا فتحته؛ لتخرجَهُ من الرِّجْل، وكلُّ عُقدْة حلَلْتَهَا، فقد فَصَمْتَها، قال اللَّه عز وجلَّ: { فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا } ، وانفصامُ العروةِ أنْ تنفَكَّ عن موضعها، وأصْلُ الفَصْم عند العرب: أنْ تفكَّ الخلخال، ولا يبين كَسْره، فإِذا كسرته، فقد قَصَمْتَهُ بالقافِ. انتهى.

ولما كان الإِيمان ممَّا ينطقُ به اللِّسان، ويعتقده القلبُ، حَسُن في الصفاتِ ـــ { سَمِيعٌ }: من أجْل النُّطْق، و { عَلِيمٌ } من أجْل المعتقَدِ.

قوله سبحانه: { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ... } الآية: الوليُّ من: وَلِيَ، فَإِذا لازم أحدٌ أحداً بنَصْره، وودِّه، وٱهتبالِهِ، فهو وليُّه؛ هذا عُرْفُهُ لغةً، ولفظ الآية مترتِّب في الناس جميعاً، وذلك أن منْ آمن منهم، فاللَّه وليُّه، أخرجه من ظلمة الكُفْر إِلى نور الإِيمان، ومَنْ كفر بعد وجودِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم فَشَيْطَانَهُ ومُغْوِيهِ أخرجه من الإِيمان؛ إِذ هو معدٌّ وأهل للدخول فيه، ولفظ { ٱلطَّـٰغُوتُ } في هذه الآيةِ يَقْتَضِي أنَّه ٱسْمُ جنْسٍ؛ ولذلك قال: { أَوْلِيَاؤُهُمُ }؛ بالجَمْع؛ إِذ هي أَنْوَاع.