الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } * { وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } * { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }

وقوله تعالى: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ... } الآية، أي: لما اتفق ملأهم علَىٰ تمليك طالوتَ، وفصل بهم، أيْ: خرج بهم من القُطْرِ، وفَصَلَ حالَ السفر من حال الإِقامة.

قال السُّدِّيُّ وغيره: وكانوا ثمانين ألفاً، { قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ } أي: مختبركم، فمن ظهرت طاعته في تَرْك الماءِ، علم أنه يطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهْوَتُه في الماء، وعصى الأمر، فهو بالعصيان في الشدائد أحْرَىٰ؛ ورخَّص للمطيعين في الغُرْفة؛ ليرتفع عنْهم أذى العَطَش بعض الاِرتفاعِ، وليكسروا نزاعَ النَّفْس في هذه الحال.

* ت *: ولقد أحْسَنَ من شبه الدُّنْيا بنَهَرِ طالوتَ، فمن ٱغتَرَفَ منْها غُرفةً بيد الزهْدِ، وأقبل علَىٰ ما يعنيه من أمر آخرته، نجا، ومَنْ أكبَّ عليها، صدَّته عن التأهُّب لآخرته، وقلَّت سلامته إِلاَّ أنْ يتدارَكَه اللَّه.

قال ابن عَبَّاس: وهذا النَّهَر بيْن الأَرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ، وقال أيضاً: هو نَهْرُ فِلَسْطِينَ.

قال: * ع *: وظاهرُ قولِ طالوتَ { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم }؛ أنه بإِخبار من النبيِّ لطالوتَ، ويحتمل أنْ يكون هذا مما ألهم اللَّه إِليه طالوتَ، فجرَّب به جنده، وهذه النَّزْعة واجبٌ أنْ تقع من كلِّ متولِّي حَرْب، فليس يحارِبُ إِلا بالجنْدِ المطيعِ، وبَيِّنٌ أن الغرفة كَافَّةُ ضرر العَطَش عنْد الحَزَمَةِ الصَّابرين على شَظَف العَيْش الَّذين هم في غير الرفاهيَةِ، وقوله: { فَلَيْسَ مِنِّي } ، أي: ليس من أصحابي في هذه الحَرْب، ولم يخرجْهم بذلك عن الإِيمان، ومثلُ هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا " ، و " مَنْ رَمَانَا بِالنَّبْلِ، فَلَيْسَ مِنَّا " ، و " لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوبَ، وَلَطَمَ الخُدُودَ ". وفي قوله: { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } سدُّ الذرائعِ؛ لأنَّ أدْنَى الذَّوْق يدْخُل في لفظ الطّعم، فإِذا وقع النَّهْيُ عن الطُّعْم، فلا سبيل إِلى وقوع الشُّرْبِ ممَّن يتجنَّب الطعْم، ولهذه المبالغةِ لم يأْتِ الكلامُ: ومَنْ لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ.

* ص *: { إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ }: استثناءٌ من الجملة الأولَىٰ، وهو قوله: { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } ، أيْ: إِلاَّ من ٱغترَفَ غُرْفة بيَده، دون الكَرْع، فهو منِّي، والاستثناء إِذا تعقَّب جملتين فأكثر، أمكَنَ عَوْده إِلى كلِّ منها، فقيل: يعود على الأخيرة، وقيل: إِلى الجميع.

وقال أبو البقاء: إِنْ شئْتَ، جعلته مِنْ «مَنِ» الأولَىٰ، وإِنْ شئْتَ مِنْ «مَنِ» الثانيةِ، وتُعُقِّبَ؛ بأنه لو كان استثناءً من الثانية، وهي: { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } ، لَلَزِمَ أنْ يكون: { مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً } ليس منه؛ لأن الاستثناء من الإِثبات نفيٌ، ومن النفي إِثبات؛ على الصحيح، وليس كذلك؛ لأنه أبيحَ لهم الاغترافُ، والظاهر عوده إِلى الأولَىٰ، والجملةُ الثانية مفهومةٌ من الأولَىٰ، لأنه حين ذكر أنَّ من شربه، فليس منه، فُهِمَ من ذلك أنَّ مَنْ لم يشرب منه، فإِنه منه.

السابقالتالي
2 3