الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ ٱلْكِتَابِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِٱلْمَعْرُوفِ ذٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }

قوله تعالى: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ... } الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره: هو ٱبتداء الطلْقةِ الثالثةِ؛ قال: * ع *: فيجيء التسريحُ المتقدِّم ترك المرأة تتمُّ، عِدَّتها من الثانية، وأجمعتِ الأُمَّةُ في هذه النازلةِ على ٱتباع الحديثِ الصحيحِ " في امرأة رِفَاعَةَ، حِينَ تزوَّجت عبْدَ الرحمنِ بْنَ الزَّبِيرِ، فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لَعَلَّكِ أَرَدتِّ الرُّجُوعَ إِلَىٰ رِفَاعَةَ، لاَ؛ حَتَّىٰ يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ " ؛ فرأَى العلماء أنه لا يُحِلُّها إِلا الوطءُ. وكلُّهم على أن مَغِيبَ الحَشَفة يُحِلُّ إِلا الحسنَ بْنَ أبي الحَسَن، قال: لا يحلُّها إِلا الإِنزال، وهو ذَوْقُ العُسَيْلَةَ، والذي يُحِلُّها عند مالك النكاحُ الصحيحُ، والوطْء المُباح.

وقوله تعالى: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ... } الآية: المعنى: فإِنْ طلَّقها المتزوِّج الثَّاني، فلا جُنَاح عليهما، أي: المرأة والزوج الأول. قاله ابن عَبَّاس، ولا خلاف فيه، والظنُّ هنا علَىٰ بابه من تغليبِ أحد الجائزَيْن، وخص الذين يعلمون بالذكْر تشريفاً.

وقوله تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ... } الآية: خطابٌ للرجالِ، نُهِي الرجُلُ أن يطول العدَّة، مضارَّةً لها؛ بأن يرتجع قرب ٱنقضائِهَا، ثم يطلِّق بعد ذلك؛ قاله الضَّحَّاك وغيره، ولا خلاف فيه.

ومعنَى: { بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ }: قاربْنَ؛ لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإِمساك، ومعنى: أمسكوهنَّ راجِعُوهنَّ - و { بِمَعْرُوفٍ }: قِيلَ: هو الإِشهاد - { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ } ، أي: لا تراجعوهنَّ { ضِرَارًا } ، وباقي الآية بَيِّنٌ.

وقوله تعالى: { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَـٰتِ ٱللَّهِ هُزُوًا... } الآية: المرادُ بآياته النازلَةُ في الأوامر والنَّواهِي، وقال الحسن: نزلَتْ هذه الآية فيمَنْ طَلَّق لاعباً أو هازئاً، أو راجَعَ كذلك.

وقالتْ عائشةُ: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: " ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ ". ثم ذَكَّرَ اللَّه عباده بإِنعامه سبحانه علَيْهم بالقرآن، والسُّنَّة، و { الْحِكْمَةِ }: هي السُّنَّة المبينة مرادَ اللَّه سبحانه.

وقوله تعالى: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ... } الآية: خطابٌ للمؤمنين الذين منْهم الأزواج، ومنهم الأولياءُ؛ لأنهم المراد في تَعْضُلُوهنَّ، وبلوغ الأجلِ في هذا الموضِعِ تناهِيهِ؛ لأن المعنى يقتضي ذلكَ.

وقد قال بعضُ النَّاسِ في هذا المعنَىٰ: إِن المراد بـ { تَعْضُلُوهُنَّ }: الأزواجُ؛ وذلك بأن يكون الاِرتجاعُ مضارَّة؛ عضْلاً عن نكاحِ الغَيْر، فقوله: { أَزْوَٰجَهُنَّ }؛ على هذا، يعني به: الرجالَ؛ إِذ منهم الأزواج، وعلى أن المراد بـ { تَعْضُلُوهُنَّ } الأولياءُ، فالأزواج هم الذين كُنَّ في عصمتهم.

«وَالعَضْل»: المَنْع وهو من معنى التضْييقِ والتعسيرِ؛ كما يقال: أعْضَلَتِ الدجاجَةُ، إِذا عَسُر بيضُها، والدَّاء العُضَال: العسيرُ البرءِ، وقيل: نزلَتْ هذه الآيةُ في مَعْقِل بْنِ يَسَارٍ، وأخته، لما طلَّقها زوجها، وتمَّتْ عدَّتُها، أراد ٱرتجاعَهَا، فمنعَهُ وليُّ المرأة، وقيل: نزلَتْ في جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، وأختِهِ.

وهذه الآيةُ تقتضي ثبوتَ حَقِّ الولي في إِنكاح وليَّته، وقوله: { بِٱلْمَعْرُوفِ }: معناه: المهر، والإِشهاد.

وقوله تعالى: { ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ } خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم رجُوعٌ إِلى خطابِ الجَمَاعة، والإِشارة في { ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ } إِلى ترك العَضْل، و { أَزْكَىٰ... وَأَطْهَرُ }: معناه: أطيبُ للنفْسِ، وأطهر للعِرْضِ والدِّين؛ بسبب العلاقاتِ التي تكونُ بين الأزواجِ، وربَّما لم يعلمها الوليُّ، فيؤدِّي العَضْلُ إِلى الفسادِ، والمخالطةِ؛ علَىٰ ما لا ينبغِي، واللَّه تعالَىٰ يعلَمُ من ذلك ما لا يعلَمُ البَشَر.