الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ فَإِنِ ٱنْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } * { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

{ وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ }: «ٱلْفَتْنَة»: هنا الشِّرْك، وما تابعه من أذى المؤمنين. قاله ابن عَبَّاس وغيره.

و { ٱلدِّينِ } هنا: الطاعةُ، والشَّرْعُ، والانتهاءُ في هذا الموضع يصحُّ مع عموم الآية في الكفار؛ أنْ يكون الدُّخُولَ في الإِسلام؛ ويصحُّ أن يكون أداء الجزية.

وقوله تعالى: { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ... } الآية: قال ابن عبَّاس وغيره: نزلَتْ في عمرة القَضِيَّةِ، وعامِ الحديبيَةِ سنَةَ ستٍّ، حين صدَّهم المشركون، أي: الشهرُ الحرامُ الذي غلَّبكم اللَّه فيه، وأدخلكم الحَرَمَ عليهم سنَةَ سَبْعٍ - بالشهر الحرامِ الذي صدُّوكم فيه، والحرمات قصاصٌ.

وقالتْ فرقةٌ: قوله: { وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ }: مقطوعٌ مما قبله، وهو ابتداء أمر كان في أول الإِسلام أنَّ من ٱنتهكَ حرمَتَكَ، نِلْتَ منه مثْلَ ما ٱعتدَىٰ عليك.

{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }: قيل: معناه في أَلاَّ تعتدوا، وقيل: في ألاَّ تزيدُوا على المثل.

وقوله تعالى: { وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ... } الآية: سبيلُ اللَّهِ هنا: الجهادُ، واللفظ يتناوَلُ بَعْدُ جميعَ سُبُلِهِ، وفي الصحيح أنَّ أبا أيُّوب الأنصاريَّ كان على القُسْطَنْطِينِيَّةِ، فحمل رجُلٌ على عَسْكَر العدُوِّ، فقال قومٌ: ألقى هذا بيده إِلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إِنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في الأنصار، حين أرادوا، لمَّا ظهر الإِسلام؛ أن يتركوا الجهادَ، ويَعْمُروا أموالهم، وأما هذا، فهو الذي قال اللَّه تعالَىٰ فيه:وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآء مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } [البقرة:207].

وقال ابن عبَّاس، وحذيفةُ بْنُ اليَمَانِ، وجمهورُ الناس: المعنى: لا تُلْقُوا بأيديكم؛ بأنْ تتركُوا النَّفَقَةَ في سَبِيلِ اللَّه، وتخافوا العَيْلَةَ.

{ وَأَحْسِنُواْ }: قيل: معناه: في أعمالكم بٱمتثال الطَّاعات؛ روي ذلك عن بعض الصحابة، وقيل: المعنى: وأحسنوا في الإِنفاق في سبيل اللَّهِ، وفي الصَّدَقَات، قاله زَيْدُ بْنُ أَسْلَم، وقال عِكْرِمَة: المعنَىٰ: وأحْسِنُوا الظنَّ باللَّه عزَّ وجلَّ.

* ت *: ولا شَكَّ أن لفظ الآية عامٌّ يتناول جميعَ ما ذكر، والمخصَّص يفتقر إِلى دليل.

فأما حُسْن الظن باللَّه سبحانه، فقد جاءَتْ فيه أحاديثُ صحيحةٌ، فمنها: " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي " ، وفي «صحيح مسلم»، عن جابرٍ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: " لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ " انتهى.

وأخرج أبو بكر بن الخَطِيبِ، بسنده، عن أنسٍ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ المَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ " انتهى.

قال عبد الحَقِّ في «العاقبة»: أَمَّا حسْنُ الظنِّ باللَّهِ عزَّ وجلَّ عند الموت، فواجبٌ؛ للحديث. انتهى.

ويدخل في عموم الآية أنواعُ المعروف؛ قال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ " ، قَالَ أبُو جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيُّ؛ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي، قَالَ: «لاَ تَحْقِرَنَّ شَيْئاً مِنَ المَعْرُوفِ؛ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَوْ أَنْ تُفَرِّغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ المُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تَلْقَىٰ أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ» " ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: " أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الآخِرَةِ " ، وقال عليه الصلاة والسَّلام: " إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ، هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ " انتهى من كتابه المسمَّىٰ بـــ «بهجة المَجَالسِ و أُنْس المُجَالِسِ».