الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } * { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله تعالى: { يَٰـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ... } الآية: الطَّيِّب: هنا يجمع الحلال المستلَذَّ، والآية تشير بتبعيض «مِنْ»؛ إلى أن الحرام رزْقٌ، وحضّ سبحانه على الشكر، والمعنَىٰ: في كل حالةٍ، وفي «مصابيح البَغَوِيِّ»؛ عن أبي دَاوُدَ والنَّسائِيِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: " الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كَالصَّائِمِ الصَّابِرِ " انتهى.

قال القُشَيْرِيُّ: قال أهل العلْمِ بالأصول: نِعَمُ اللَّهِ تعالَىٰ علَىٰ ضربَيْن: نعمةُ نَفْعٍ، ونعمةُ دَفْعٍ، فنعمةُ النفْعِ: ما أولاهم، ونعمةُ الدفع: ما زَوَىٰ عنهم، وليس كلُّ إِنعامه سبحانه ٱنتظام أسبابِ الدنيا، والتمكُّنَ منها، بل ألطافُ اللَّه تعالَىٰ فيما زَوَىٰ عنهم من الدُّنْيَا أكثرُ، وإن قرب العبد من الربِّ تعالَىٰ علَىٰ حسب تباعُدِهِ من الدنيا. انتهى من «التَّحْبير».

وقال أبو عمر بن عبد البَرِّ في كتابه المسمَّىٰ بـــ «بهجة المجالس». قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىٰ عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ شُكْرَهَا، وَمَا عَلَمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً عَلَىٰ ذَنْبٍ إِلاَّ غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْبَسُ الثَّوْبَ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ، فَمَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ؛ حَتَّىٰ يُغْفَرَ لَهُ " قال أبو عُمَر: مكتوبٌ في التوراةِ: «ٱشْكْر لِمَنْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَأَنْعِمْ عَلَىٰ مَنْ شَكَرَكَ؛ فَإِنَّهُ لاَ زَوَالَ لِلنِّعَمِ، إِذَا شُكِرَتْ، وَلاَ مُقَامَ لَهَا، إِذَا كُفِرَتْ». انتهى.

«وإِنْ» من قوله: { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }: شرطٌ، والمراد بهذا الشرط التثبيتُ، وهزُّ النفوس؛ كما تقول: ٱفْعَلْ كَذَا، إِنْ كنْتَ رجلاً، و «إِنَّمَا» ههنا حاصرة، ولفظ الميتة عمومٌ، والمعنَىٰ مخصِّص لأنَّ الحوتَ لم يدخُلْ قطُّ في هذا العموم، وفي مسند البَزَّار عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ المَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ " انتهى من «الكوكب الدُّرِّيِّ»؛ للإمام أبي العباس أحمد بن سَعْدٍ التُّجِيبِيِّ.

{ وَٱلدَّمَ } يراد به المسفوحُ؛ لأن ما خالط اللحْمَ، فغير محرَّم بإِجماع.

* ت *: بل فيه خلافٌ شاذٌّ، ذكره ابن الحاجبِ وغيره، والمشهورُ: أظهر؛ لقول عائشةَ ـــ رضي اللَّه عنها ـــ: «لَوْ حُرِّمَ غَيْرُ المَسْفُوحِ، لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي العُرُوقِ، وَلَقَدْ كُنَّا نَطْبُخُ اللَّحْمَ، وَالبُرْمَةُ تَعْلُوهَا الصُّفْرَةُ». انتهى.

{ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ }.

قال ابن عبَّاس وغيره: المراد ما ذُبِحَ للأنْصَاب والأوثان، و { أُهِلَّ بِهِ }: معناه صِيحِ به؛ ومنه: استهلالُ المولودِ، وجرَتْ عادة العرب بالصياحِ بٱسْمِ المقصودِ بالذبيحةِ، وغلب ذلك في استعمالهم؛ حتى عبر به عن النيَّة التي هي علَّة التحريم.

{ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } قال قتادة وغيره: معناه غيْرَ قاصدِ فسادٍ وتعدٍّ؛ بأن يجدَ عن هذه المحرَّمات مندوحةً، ويأكلها، وأصحاب هذا القول يجيزونَ الأكل منها في كلِّ سفر، مع الضرورة، وقال مجاهد وغيره: المعنَىٰ: غير باغٍ على المسلمين، وعَادٍ عليهم، فيدخل في الباغِي والعادِي قُطَّاعُ السبل، والخارجُ على السلطانِ، والمسافر في قَطْع الرحمِ، والغَارَةُ على المسلمين، وما شاكله، ولغير هؤلاء: هي الرخصةُ.

السابقالتالي
2