الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } * { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }

وقوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ } ، أي: الكعبة { مَثَابَةً } ، يحتملُ مِنْ ثَابَ إِذا رجع، ويحتمل أن تكون من الثواب، أي: يثابون هناك، «وَأَمْناً» للناسِ والطيرِ والوُحُوشِ؛ إذ جعل اللَّه لها حرمةً في النفوس؛ بحيث يَلْقَى الرجُلُ بها قاتِلَ أبيه، فلا يهيجه، وقَرَأَ جمهور الناس: «وَٱتَّخِذُوا»، بكسر الخاء؛ على جهة الأمر لأمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، «وٱتَّخَذُوا» بفتح الخاء؛ على جهة الخبر عن مَنِ ٱتَّخَذَه مِنْ متبعي إبراهيم - عليه السلام - ومقام إبراهيم في قول ابن عَبَّاس، وقتادة، وغيرهما، وخرَّجه البُخَارِيُّ هو الحَجَر الذي ٱرتفع عليه إِبراهيم حينَ ضَعُف عن رفْع الحجارةِ الَّتي كان إِسماعيلُ يناوله إِياها في بنَاء البَيْت، وغَرِقَتْ قدماه فيه، و { مُصَلًّى }: موضع صلاة.

* ص *: { مِن مَّقَامِ }: مِنْ تبعيضيةٌ على الأظهر، أو بمعنَىٰ: «في» أو زائدة؛ علَىٰ مذهب الأخفش، والمقامُ: مَفْعَلٌ من القيامِ، والمراد به هنا المكانُ، انتهى، يعني: المكانَ الذي فيه الحَجَر المسمَّىٰ بالمقام.

وقوله تعالى: { وَعَهِدْنَا }: العَهْدُ؛ في اللغة: على أقسام، هذا منها، الوصية بمعنى الأمر، و { طَهِّرَا }: قيل: معناه: ٱبنِيَاهُ وأسِّساه علَىٰ طَهَارَةٍ ونيَّةِ طَهَارَةٍ، وقال مجاهدٌ: هو أمر بالتطهير من عبادة الأوثان، و { لِلطَّائِفِينَ } ظاهره: أهل الطوافِ، وَقَالَهُ عطاء وغيره، وقال ابن جُبَيْر: معناه: للغرباءِ الطارئِينَ علَىٰ مكَّة، { وَٱلْعَـٰكِفِينَ }: قال ابن جُبَيْر: هم أهل البلد المقيمُونَ، وقال عطاء: هم المجاورُونَ بمكَّة، وقال ابنُ عبَّاس: المصَلُّون، وقال غيره؛ المعتكفُونَ، والعكُوف؛ في اللغة: الملازمة.

وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا } ، أيْ: من الجبابرة والعدُوِّ المستأصل، وروي أن اللَّه تعالى، لما دعاه إِبراهيم، أمر جبريل، فٱقتلع فِلَسْطِينَ، وقيل: بقعة من الأرْدُنِّ، فطاف بها حَوْلَ البيتِ سبْعاً، وأنزلها بِوَج، فسمِّيت الطَّائِفَ؛ بسبب الطواف.

وقوله تعالى: { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً... } الآية: قال أبيُّ بن كَعْب، وٱبْنُ إسحاقَ، وغيرهما: هذا القَوْلُ من اللَّه عزَّ وجلَّ لإِبراهيم، وقال ابنُ عَبَّاس، وغيره: هذا القول من إِبراهيم.

قال: * ع *: فكأنَّ إِبراهيم دعا للمؤمنين، وعلى الكافرين، وفي «مختصر الطبريِّ»: وقرأ بعضهم، «فأُمْتِعْهُ»؛ بالجزم، والقَطْع على الدعاء، ورآه دعاءً من إِبراهيم، وروي ذلك عن أبي العالية، كان ابنُ عبَّاس يقول: ذلك قولُ إبراهيم، سأل ربَّه أنَّ من كَفَر به، فأمتعه قليلاً يقول: فٱرزقْهُ قليلاً، ثم ٱضْطَرَّهُ إِلى عذاب النارِ، أي: أَلْجِئْهُ. انتهى، وعلى هذِهِ القراءةِ يجــيءُ قولُ ابن عبَّاس، لا على قراءة الجمهور، و { قَلِيلاً }: معناه: مُدَّة العُمُر؛ لأن متاع الدنيا قليلٌ.