الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } * { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

وقوله سبحانه: { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ... } الآية: يتناول لفظُ الآيةِ كلَّ خير، والرحمةُ في هذه الآية عامَّة لجميعِ أنواعها، وقال قومٌ: الرحمة القرآن.

وقوله تعالى: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا... } الآية: النَّسْخُ؛ في كلام العرب، على وجهين:

أحدهما: النَّقْل؛ كنقل كتابٍ من آخر، وهذا لا مدْخَل له في هذه الآية، وورد في كتاب اللَّه تعالَىٰ في قوله:إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية:29].

الثاني: الإِزالةُ، وهو الذي في هذه الآية، وهو منقسمٌ في اللغة على ضَرْبَيْنِ:

أحدهما: يثبت الناسخ بعد المنسوخ؛ كقولهم: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ.

والآخر: لا يثبت؛ كقولهم: نَسَخَتِ الرِّيحُ الأَثَرَ.

وورد النسخ في الشَّرْع حسب هذَيْن الضربَيْن وحَدُّ «النَّاسِخ» عنْد حُذَّاق أهل السنة: الْخِطَابُ الدالُّ على ٱرتفاع الحُكْمِ الثَّابتِ بالخطابِ المتقدِّمِ على وجْهٍ لولاه لكان ثَابِتاً، مع تراخيه عنه.

* ت *: قال ابن الحاجِبِ: والنَسْخُ؛ لغةً: الإِزالة، وفي الاصطلاح: رفع الحُكْمِ الشرعيِّ؛ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّر. انتهى من «مختصره الكبير».

والنسْخُ جائز على اللَّه تعالَىٰ عقلاً؛ لأنه لا يلزم عنه محالٌ، ولا تتغيرُ صفة من صفاته تعالَىٰ، وليست الأوامر متعلِّقة بالإِرادة، فيلزم من النسْخ أنَّ الإِرادة تغيَّرت، ولا النسخ؛ لطروء علْم، بل اللَّه تعالَىٰ يعلم إلى أيِّ وقت ينتهي أمره بالحكم الأول، ويعلم نسخه له بالثاني، والبَدَاءُ لا يجوزُ على اللَّه تعالَىٰ؛ لأنه لا يكون إلا لطروءِ علْمٍ أو لتغيُّر إِرادة؛ وذلك محالٌ في جهة اللَّه تعالَىٰ، وجعلت اليهود النسْخَ والبَدَاءَ واحداً، فلم يجوِّزوه، فضَلُّوا.

والمنسوخُ؛ عند أئمتنا: الحُكْم الثابتُ نفسُه، لا ما ذهْبت إِلَيْه المعتزلةُ من أنه مثل الحُكْم الثَّابت فيما يستقبلُ، والذي قادهم إلى ذلك مذهَبُهم في أنَّ الأوامر مرادةٌ، وأن الحُسْن صفةٌ نفسيَّةٌ للحَسَنِ، ومراد اللَّه تعالَىٰ حَسَنٌ، وقد قامت الأدلَّة على أنَّ الأوامر لا ترتبطُ بالإِرادة، وعلى أن الحُسْن والقُبْح في الأحكام، إِنما هو من جهة الشرع، لا بصفة نفسيَّة، والتخصيصُ من العموم يوهم أنه نسْخ، وليس به؛ لأن المخصَّص لم يتناولْه العمومُ قطُّ، ولو تناوله العموم، لكان نسخاً، والنسخ لا يجوز في الأخبار، وإِنما هو مختصٌّ بالأوامر والنواهي، ورد بعض المعترضين الأمر خبراً؛ بأن قال: أليس معناه وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أنْ تَفْعَلُوا كذا، فهذا خبر، والجوابُ أن يقال: إِن في ضمن المعنَى: إِلاَّ أنْ أنْسَخَهُ عنْكُم، وأرفعه، فكما تضمَّن لفظ الأمر ذلك الإِخبار؛ كذلك تضمَّن هذا الاستثناءُ، وصور النسخ تختلفُ، فقد ينسخ الأثقل إِلى الأَخَفِّ، وبالعكس، وقد ينسخ المثلُ بمثلهِ ثِقَلاً وخِفَّةً، وقد ينسخ الشيء لا إِلى بدل، وقد تُنْسَخُ التلاوة دون الحُكْم، وبالعكس، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نَسْخ أحدهما دون الآخر، ونسْخُ القرآن بالقرآن، وينسخ خبر الواحدِ بخبر الواحدِ؛ وهذا كله مُتَّفَقٌ عليه، وحُذَّاق الأئمَّة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجودٌ في قوله - عليه السلام -

السابقالتالي
2