الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } * { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } * { كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً }

وقوله سبحانه: { وَلاَ تَقْفُ } معناه لا تقُلْ ولا تتَّبع، واللفظة تستعملُ في القَذْف؛ ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ لاَ نَقْفُوا أُمَّنَا، وَلاَ نَنْتِفى مِنْ أَبِينَا " ، وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول: قَفَوْتُ الأَثَرَ، وحكى الطبريُّ عن فرقةٍ؛ أنها قالَتْ: قَفَا وقَافَ، مثل عَثَا وعَاث، فمعنى الآية: ولا تتبع لسانَكَ من القول من ما لا عِلْمَ لك به، وبالجملة: فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذفِ وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والمُرْدِيَة.

{ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً } عبَّر عن هذه الحواسِّ بـ { أُوْلَـٰئِكَ }. لأن لها إدراكاً وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالَةُ مَنْ يعقل.

* ت *: قال * ص *: وما توهمه ابنُ عطية { أُوْلَـٰئِكَ } تختصُّ بمن يعقل ليس كذلك؛ إِذ لا خلاف بين النحاة في جواز إطلاق «أولاء» و «أولئك» على مَنْ لا يعقل.

* ت *: وقد نقل * ع * الجَوَازَ عن الزَّجَّاجِ وفي ألفِيَّةِ ابْنِ مالك: [الرجز]
وبأُولَىٰ أَشِرْ لِجَمْعٍ مُطْلَقَا   ..........................
فقال والده بدر الدين: أي سواءٌ كان مذكَّراً أو مؤنَّثاً، وأكثر ما يستعمل فيمن يعقل، وقد يجيء لغيره؛ كقوله: [الكامل]
ذُمَّ المَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى   والعَيْشَ بَعْدَ أُوَلئِكَ الأَيَّامِ
وقد حكى * ع * البيْتَ، وقال: الرواية فيه «الأقوامِ»، واللَّه أعلم انتهى.

والضمير في { عَنْهُ } يعودُ على ما ليس للإِنسان به عِلْم، ويكون المعنى: إِن اللَّه تعالى يَسْأَل سَمْعَ الإِنسان وبَصَره وفُؤَاده عمَّا قال مما لاَ عْلَم له به، فيقع تكذيبه مِنْ جوارحه، وتلك غايةُ الخزْي، ويحتمل أنْ يعود على { كُلٌّ } التي هي السمْعُ والبصر والفؤاد، والمعنى: إن اللَّه تعالى يسأل الإِنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده.

قال صاحبُ «الكَلِمِ الفَارِقِيَّة»: لا تَدَعْ جَدْوَلَ سمِعْكَ يجرى فيه أُجَاج الباطل؛ فيلهب باطنك بنار الحِرْص على العاجل، السَّمْعُ قُمْعٌ تغور فيه المعاني المَسْمُوعة إِلى قرار وعاء القَلْب، فإنْ كانَتْ شريفةً لطيفةً، شرَّفَتْه ولطَّفَتْه وهذَّبَتْه وزكَّتْه، وإِن كانَتْ رذيلةً دنيَّةً، رذَّلَتْه وخبَّثَتْه، وكذلك البصَرُ منْفُذٌ مِنْ منافذ القَلْبِ، فالحواسُّ الخمْسُ كالجداول والرواضِعِ تَرْضَعُ من أثداءِ الأشياء التي تُلاَبِسُها، وتأخذ ما فيها من معانيها وأوصافها، وتؤدِّيها إلى القَلْب وتنهيها. انتهى.

وقوله سبحانه: { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحًا } قرأ الجمهور { مَرَحاً } بفتح الحاء مصدر: مَرِحَ يَمْرَحُ؛ إِذا تسيَّب مسروراً بدنياه، مقبلاً على راحته، فنُهِيَ الإِنسانُ أنْ يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، وقرأت فرقةٌ: «مَرِحاً» بكسر الراء، ثم قيل له: إِنك أيها المَرِحُ المختال الفخورُ، لن تَخْرِقَ الأرض، ولن تطاول الجبال بفخْرك وكبْرك، «وخرق الأرض» قَطْعها ومَسْحها واستيفاؤها بالمشْي.

وقوله سبحانهُ: { كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ } قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو: «سَيِّئَةً» فالإِشارة بذلك على هذه القراءةِ إلى ما تقدَّم ذكره مما نهي عنه كقوله:أُفٍّ } [الإسراء:23] وقذف الناس، والمَرَحِ، وغيرِ ذلك، وقرأ عاصم وابن عامرٍ وحمزةُ والكسائيُّ «سَيِّئُهُ» على إضافة «سَيِّىء» إلى الضمير، فتكون الإِشارة؛ على هذه القراءة إلى جميع ما ذَكَرَ في هذه الآيات؛ من بِرٍّ ومعصيةٍ، ثم اختص ذكْر السَّيِّىء منه، بأنه مكروه عند الله تعالى.