الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } * { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } * { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } * { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } * { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً }

وقوله سبحانه: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } قرأ الجمهور: «أَمَرْنَا»؛ على صيغة الماضي، وعن نافع وابن كثير، في بعض ما رُوِيَ عنهما: «آمَرْنَا» بمد الهمزة؛ بمعنى كَثَّرنا، وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه: «أَمَّرْنَا» بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان النَّهْديِّ، وأبي العاليةِ وابن عبَّاسِ، ورُوِيَتْ عن علي، قال الطبري القراءة الأولى معناها: أمرناهم بالطَّاعة، فعصَوْا وفَسَقُوا فيها، وهو قولُ ابن عباس وابنِ جبير، والثانية: معناها: كَثَّرناهم، والثالثة: هي من الإِمارَةِ، أي ملَّكناهم على الناس، قال الثعلبي: واختار أبو عُبَيْد وأبو حاتمٍ قراءة الجمهور، قال أبو عُبَيْد: وإِنما اخترْتُ هذه القراءة، لأنَّ المعاني الثلاثةَ مجتمعةٌ فيها، وهي معنى الأمْرِ والإِمارة والكثرة انتهى.

* ت *: وعبارة ابن العربي: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } يعني بالطاعة، ففسقوا بالمخالَفَة انتهى من كلامه على الأفعال الواقعة في القرآن، «والمترف» الغنيُّ من المالِ المتنعِّم، والتُّرْفَةُ: النِّعمة، وفي مُصْحف أبيِّ بن كعب: «قَرْيَةً بَعَثْنَا أكابِرَ مُجْرِمِيها فَمَكَرُوا فيها».

وقوله سبحانه: { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } ، أي: وعيدُ اللَّه لها الذي قاله رسولهم، «والتدميرُ» الإِهلاك مع طَمْس الآثار وهَدْمِ البناء.

{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ... } الآية: مثال لقريشٍ ووعيدٌ لهم، أي: لستم ببعيد مما حصلوا فيه إِن كذبتم، وٱختلف في القرن، وقد روى محمَّد بن القاسم في خَتْنِهِ عَبْد اللَّه بن بُسْر، قال: " وضع رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدَهُ على رأسه، وقال: «سَيَعِيشُ هَذَا الغُلاَمُ قَرْناً» قُلْتُ: كم القَرْنُ؟ قالَ: مِائَةُ سنة " قال محمد بن القاسِمِ: فما زِلْنَا نَعُدُّ له حتى كملِ مِائَةَ سنةٍ، ثم ماتَ رحمه الله.

والباء في قوله: { بِرَبِّكَ } زائدةٌ، التقديرٌ وكفَى ربُّكَ، وهذه الباء إِنما تجيء في الأغلب في مَدْحٍ أو ذمٍّ، وقد يجيء «كَفَى» دون باء، كقول الشاعر: [الطويل]
....................................   كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلاَمُ لِلمَرْءِ ناهِيَا
وكقول الآخر: [الطويل]
وَيُخْبرُني عَنْ غَائِبِ المَرْءِ هَدْيُهُ   كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرَا
وقوله سبحانه: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ... } الآية: المعنى فإِن اللَّه يعجِّل لمن يريدُ من هؤلاء ما يشاء سبحانه؛ على قراءة النون، أو ما يشاء هذا المريدُ؛ على قراءة الياء، وقوله: { لِمَن نُّرِيدُ } شرط كافٍ على القراءتين، وقال ابن إسحاق الفَزَارِيُّ: المعني لِمَنْ نريدُ هَلَكَتَه، و«المدحورُ» المهان المُبْعَدُ المذَّلل المسخُوطُ عليه.

وقوله سبحانه: { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ } ، أي: إِرادَة يقينِ وإِيمانٍ بها، وباللَّهِ ورسالاتِهِ، ثم شرَطَ سبحانه في مريدِ الآخرة أنْ يَسَعى لها سَعْيَها، وهو ملازمُة أعمالِ الخير على حُكْم الشرع، { فَأُوْلَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } ولا يشكر اللَّه سعياً ولا عملاً إِلا أثابَ عليه، وغَفَر بسببه؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديثِ الرجُلِ الذي سَقَى الكَلْبَ العاطِشَ: « فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ له».

وقوله سبحانه: { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاءِ وَهَـؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ } يحتملُ أنْ يريد بـــ«العطاء» الطاعات لمريد الآخرةِ، والمعاصي لمريد العاجلةِ، وروي هذا التأويل عن ابن عباس، ويحتمل أن يريد بالعطاء رزقَ الدنيا، وهو تأويل الحسن بن أبي الحسن، وقتادة، المعنى أنه سبحانه يرزقُ في الدنيا من يريد العاجلَة ومريدَ الآخرة، وإِنما يقع التفاضُلُ والتبايُنُ في الآخرةِ، ويتناسَبُ هذا المعنى مع قوله: { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } ، أي: ممنوعاً، وقَلَّمَا تصلح هذه العبارةُ لمن يُمَدّ بالمعاصي.