الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } * { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } * { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ }

وقوله عز وجل: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ... } الآية: هذه الآية بجملتها فيها وعيدٌ للظالمين، وتسليةٌ للمظلومين، والخطابُ بقوله: { تَحْسَبَنَّ } للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، و { تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَـٰرُ } ، معناه: تُحِدُّ النظرَ، لفرط الفَزَعِ ولفَرْطِ ذلك يَشْخَصُ المُخْتَضَرُ، و«المُهْطِع» المسرع في مَشْيه؛ قاله ابنُ جُبَيْر وغيره، وذلك بِذِلَّة وٱستكانةٍ، كإِسراع الأسير ونحوه، وهذا أرجحُ الأقوال، وقال ابن عباس وغيره: الإِهطاع شدَّة النظر من غير أنْ يَطْرِفَ، وقال ابنُ زَيْدٍ: «المُهْطِع»: الذي لا يرفع رأسَهُ، قال أبو عُبَيْدة: قد يكون: الإِهْطَاعُ للوجْهَيْنِ جميعاً: الإِسراع، وإِدَامَةُ النَّظَر، و«المُقْنِعُ»: هو الذي يَرْفَعُ رأْسَه قدُماً بوَجْهِهِ نحو الشيْءِ، ومِنْ ذلك قولُ الشاعر: [الوافر]
يُبَاكِرْنَ الْعِضَاهَ بِمُقْنَعَاتٍ   نَوَاجِذُهُنَّ كَالْحَدَإِ الوَقِيعِ
يصفُ الإِبلَ عند رعْيها أَعاليَ الشَّجَر، وقال الحسن في تفسير هذه الآية: وجوهُ الناسِ يوم القيامَةِ إِلى السماء لا يَنْظُرُ أَحدٌ إِلى أحد، وذكر المبرِّد فيما حَكَى عنه مكِّيٌّ: أن الإِقناع يوجَدُ في كلامِ العَرب بمعنَى: خَفْضِ الرأسِ من الذِّلَّة.

قال * ع *: والأول أشهر.

وقوله سبحانه: { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ }؛ أي: لا يَطْرِفُونَ من الحَذَرِ والجزعِ وشدَّة الحال.

وقوله: { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ }: تشبيه محضٌ، وَجِهَةُ التشبيه يحتملُ أنْ تكون في فراغِ الأَفئدة من الخَيْرِ والرَّجاء والطمعِ في الرحمة، فهي متخرِّقة مُشَبِهَةٌ الهواءَ في تَفرُّغه من الأشياء، وٱنخراقِهِ، ويحتمل أنْ تكون في ٱضطراب أفئدتهم وجيشانها في صُدُورهم، وأنها تذهب وتجيءُ وتبلُغُ علَى ما رُوِيَ حناجرهم، فهي في ذلك كالهَوَاءِ الذي هو أبداً في ٱضطرابٍ.

وقوله سبحانه: { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ }: المراد باليَوْمِ: يومُ القيامةِ، ونصبُهُ على أنه مفعولٌ بـــ «أَنْذِر»، ولا يجوزُ أن يكون ظرفاً، لأن القيامة ليْسَتْ بموطنِ إِنذار، قال الشيخُ العارفُ باللَّهِ عبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبي جَمْرَة: يجبُ التصْدِيقُ بكُلِّ ما أخبر اللَّه ورسُولُهُ به، ولا يتعرَّض إِلى الكيفيَّة في كلِّ ما جاء من أمْرِ الساعة وأَحْوَالِ يومِ القيامةِ، فإِنه أمْرٌ لا تسعه العُقُولُ، وطَلَبُ الكيفيَّة فيه ضعْفٌ في الإِيمانِ، وإِنما يجبُ الجَزْم بالتصديقِ بجميعِ مَا أخبر اللَّه بهِ، انتهى.

قال الغَزَّالِيُّ: فَأَعلمُ العلماءِ وأعْرَفُ الحكماءِ ينكشفُ له عَقِيبَ المَوْت مِنَ العجائبِ والآياتِ ما لَمْ يَخْطُرْ قَطُّ بباله، ولا ٱختلَجَ به ضميره، فلو لم يكُنْ للعاقلَ هَمٌّ ولا غَمٌّ، إِلا التفكُّر في خَطَر تلك الأحوال، وما الذي ينكشفُ عَنْه الغِطَاء من شقاوةٍ لازمةٍ، أو سعادة دائمةٍ لكان ذلك كافياً في ٱستغْراقِ جميع العُمُر، والعَجَبُ من غَفْلتنا، وهذه العظائِمُ بَيْنَ أيدينا. انتهى من «الإِحياء».

وقوله: { أَوَلَمْ تَكُونُواْ... } الآية: معناه: يقال لهم، وقوله: { مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ }: هو المُقْسَمُ عليه، وهذه الآية ناظرةٌ إِلى ما حَكَى اللَّه سبحانه عنهم في قوله:وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ } [النحل:38].