الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } * { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } * { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ }

وقوله تعالى: { قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفْتَؤُاْ } الآية: المعنى: تالله لا تفتأ فتحذف «لا» في هذا الموضع من القَسمِ؛ لدلالة الكلام عليها؛ فمن ذلك قول امرىء القيس: [الطويل]
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً   وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي
ومنه قول الآخر: [البسيط]
تَاللَّهِ يَبْقَىٰ عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ   .........................
أراد: لا أبْرَحُ، ولاَ يَبْقَى، و«فَتِىءَ»: بمنزلة زَالَ وبَرَحَ في المعنَى والعملِ؛ تقول: واللَّهِ، لا فَتِئْتَ قَاعِداً؛ كما تقول: لاَ زِلْتُ وَلاَ بَرَحْتُ، وعبارة الداوودي: وعن ابن عباس: تَفْتَأُ؛ أي: لا تزالُ تَذْكُرُ يوسُفَ، { حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً }. انتهى، والحَرَضُ: الذي قد نهاه الهَرَمُ أو الحُبُّ أو الحُزْنُ إِلى حالِ فَسادِ الأَعضاء وَالبَدَنِ والحسِّ، يقال: رجلٌ حَارِضٌ، أي: ذو همٍّ وحزنٍ؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إِنِّي ٱمْرُؤٌ لَجَّ بِي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي   حَتَّى بَلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ
والحَرِضُ بالجملة الذي فَسَدَ ودنا موته، قال مجاهد: الحَرَضُ: ما دون الموت؛ وفي حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمْرَضُ حَتَّى يُحْرِضَهُ المَرَضُ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ " انتهى من «رقائق ابن المبارك».

ثم أجابهم يعقوبُ عليه السلام بقوله: { إِنَّمَا أَشْكُواْ بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ }: أي: إِني لست ممَّن يَجْزَعُ ويَضْجَرُ، وإِنما أَشكو إِلى اللَّه، والبَثُّ: ما في صَدْرِ الإِنسان مما هو مُعْتَزِمٌ أَنْ يبثه وينشره.

وقال أبو عُبَيْدة وغيره: البَثُّ: أَشدُّ الحزن قال الداووديُّ عن ابن جُبَيْر، قال: مَنْ بَثَّ، فلم يصبِرْ، ثم قرأ: { إِنَّمَا أَشْكُواْ بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ }. انتهى.

وقوله: { وَلاَ تَاْيْـئَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ... } الآية: «الرَّوْحُ»: الرحمة، ثم جعل اليأْسَ مِنْ رحمة اللَّه وتفريجه مِنْ صفة الكافرين؛ إِذ فيه إِما التكذيبُ بالرُّبوبية، وإِما الجهلُ بصفاتِ اللَّه تعالى، والـــ { بِضَـٰعَةٍ }: القِطْعة من المال يُقْصَدُ بها شراءُ شَيْءٍ، ولزمها عُرْفُ الفقْهِ فيما لا حَظَّ لحاملها من الربْحِ، والـــ { مُّزْجَاةٍ }: معناها: المدفوعَةُ المتحيَّل لها، وبالجملة؛ فمَنْ يسوق شيئاً، ويتلطَّف في تسييره، فقد أزجاه، فإِذا كانَتِ الدراهمُ مدفوعةً نازلةَ القَدْر، تحتاج أنْ يُعْتَذَرَ معها، ويُشْفَعَ لها، فهي مزجاةٌ، فقيل: كان ذلك لأنها كانَتْ زيوفاً، قاله ابن عباس.

وقيل: كانَتْ بضاعتهم عروضاً، وقولهم: { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا }: معناه ما بَيْنَ الدراهم الجيادَ وبَيْنَ هذه المُزْجَاة، قاله السُّدِّيُّ وغيره وقال الداوودي عن ابن جريجٍ: { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا }: قال: ٱرْدُدْ علينا أخانا، انتهى، وهو حسن.