الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } * { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ } * { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

وقوله سبحانه: { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ ٱلرَّسُولُ... } الآية: لمَّا رأى المَلِكُ وحاضروه نُبْلَ التَّعْبِير وحُسْنَ الرأْيِ، وتضمَّن الغيب في أمْر العامِ الثامِنِ، مع ما وُصِفَ به من الصِّدْق عَظُمَ يوسُفُ في نَفْس الملك، وقال: { ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ }: يعني: المَلِكَ، { فَسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ، وقصْدُه عَلَيْه السلام بيانُ براءته، وتحقُّق منزلته من العِفَّة والخَيْرِ، فرسَمَ القصَّة بطَرَف منها، إِذا وقع النظَرُ عَلَيْه، بان الأمْرُ كله، وَنَكَبَ عن ذِكْرِ ٱمْرأةِ العزيز؛ حُسْنَ عِشْرةٍ ورعايةٍ لذِمَامِ مُلْك العزيز له، وفي «صحيح البخاري»، عن عبد الرحمٰن بن القاسِمِ صاحبِ مَالِكٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " ولَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ لُبْثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي " المعنى: لو كُنْتَ أنا، لَبَادَرْتُ بالخروج، ثم حاوَلْتُ بيان عُذْرِي بَعْدَ ذلك؛ وذلك أَنَّ هذه القصص والنوازل، إِنما هي معرَّضة ليقتدي النَّاسُ بها إِلى يوم القيامة، فأراد صلى الله عليه وسلم حَمْلَ الناسِ على الأحزمِ من الأمورِ؛ وذلك أن التارِكَ لمِثْلِ هذه الفُرْصَة ربَّما نَتَجَ له بسَبَبِ التأخير خلاَفُ مقصوده، وإِن كان يوسف قد أَمِنَ ذلك؛ بِعِلْمِهِ من اللَّه، فغيْرهُ من الناس لا يأمَنُ ذلك، فالحالة التي ذَهَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه إِلَيْها حالَةُ حَزْمٍ ومدحٍ؛ ليقتدى به، وما فعله يوسَفُ عليه السلام حالةُ صَبْرٍ وتجلُّد، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه»: وٱنظر إِلى عظيمِ حلْمِ يوسُف عليه السلام وَوُفُورِ أدبه، كيف قال: { مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱلَّـٰتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ، فذكر النساءَ جملةً؛ لتدخُلَ فيهنَّ امرأة العزيزِ مدْخَلَ العمومِ؛ بالتلويحِ دون التصريح. انتهى. وهذه كانَتْ أخلاقُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا يقابل أحداً بمكروهٍ، وإِنما يقول: « مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا »، من غير تعيينٍ، وبالجملة فكلُّ خَصْلة حميدةٍ مذكُورَةٍ في القُرآنَ ٱتَّصَفَ بها الأنبياءُ والأصفياءُ، فقد ٱتصفَ بها نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، إِذ كان خلقه القرآن، كما روته عائشةُ في الصحيحِ، وكما ذكر اللَّه سبحانه:أُوْلَٰـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام:90] انتهى.

وقوله: { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } ، فيه وعيدٌ، وقوله: { مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ }: المعنى: فَجَمَعَ المَلِكُ النِّسوة، وٱمرَأةُ العزيزِ معَهُنَّ، وقال لهنَّ: { مَا خَطْبُكُنَّ... } الآية: أي: أيُّ شيء كانَتْ قصَّتَكُن، فجاوب النساءُ بجوابٍ جيدٍ، تظهر منه براءَةُ أَنفُسِهِنَّ، وأعطَيْنَ يوسُفَ بعْضَ براءةٍ، فقلْنَ: { حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ } ، فلما سمعت ٱمرأةُ العزيزِ مقالَتَهُنَّ وَحَيْدَتَهُنَّ، حضَرَتْها نيَّةٌ وتحقيقٌ، فقالتِ: { ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ } ، أي: تبيَّنَ الحقُّ بعد خفائِهِ؛ قاله الخليل وغيره، قال البخاريُّ: حَاشَ وحَاشَى: تنزيهٌ وٱستثناءٌ، وحَصْحَصَ: وَضَح. انتهى.

ثم أقرَّتْ على نفسها بالمراودةِ، وٱلتزَمَتِ الذنْبَ، وأبرأَتْ يوسُفَ البراءةَ التامَّة.

وقوله: { ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ } إِلى قوله: { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ }: ٱختلفَ فيه أَهْلُ التأويل، هل هو مِنْ قولِ يوسُفَ أَو من قول ٱمرأةِ العَزِيزِ.