الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } * { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } * { يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } * { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }

وقوله: { يَٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ }: وصْفُه لهما بـ { يَٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ } من حيثُ سُكْنَاه؛ كما قال: { أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ } وَ { أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ } ونحو ذلك، ويحتمل أن يريد صُحْبَتَهُما له في السِّجْنِ، كأنه قال: يا صَاحِبَايَ في السجْنِ، وعرْضُه عليهما بطلاَن أمْرِ الأوثان بأنْ وصَفَها بالتفرُّق، ووَصْفُ اللَّه تعالى بالوَحْدة والقَهْر تلطُّفٌ حَسَنٌ، وأخْذٌ بيسيرِ الحُجَّة قبل كثيرها الذي ربَّما نَفَرَتْ منه طباعُ الجَاهِلِ وعانَدَتْه، وهكذا الوجْهُ في محاجَّة الجاهِلِ: أَنْ يؤخَذَ بدَرَجَةٍ يسيرةٍ من ٱلاحتجاجِ يقبلها، فإِذا قبلها، لزمته عَنْها درجةٌ أخرى فوقها، ثم كذلك أبداً حتى يصلَ إِلى الحقِّ، وإِن أُخِذَ الجاهلُ بجميعِ المَذْهَبِ الذي يُسَاقُ إِليه دفعةً أباه للحين وعانَدَهُ، ولقد ٱبْتُلِيَ بأربابٍ متفرِّقين مَنْ يَخْدُم أبناء الدنيا ويؤمِّلهم.

وقوله: { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً }: أي: مسمَّيات، ويحتملُ - وهو الراجحُ المختار - أن يريد: ما تَعْبُدُون من دونه ألوهيَّة، ولا لكُمْ تعلُّق بإِلٰه إِلا بحَسَبِ أنْ سمَّيْتُمْ أصنامكم آلهةً، فليستْ عبادتكم للَّه إِلا بالاسم فقطْ لا بالحقيقة، وأما الحقيقة: فَهِيَ وسائرُ الحجارة والخَشَب سواءٌ، وإِنما تعلَّقت عبادتكم بحَسَبِ ٱلاسم الذي وضعت، فذلك هو مبعودُكُمْ، ومفعولُ «سميتم» الثاني محذوفٌ، تقديره: آلهة؛ هذا على أن الأسماء يراد بها ذواتُ الأصنام، وأما على المعنى المُخْتارِ من أنَّ عبادتهم إِنما هي لمعانٍ تعطيها الأسماءُ، وليسَتْ موجودةً في الأصنام، فقوله: { سَمَّيْتُمُوهَا } بمنزلةِ وضَعْتُمُوهَا، { إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ }: أي ليس لأصنامكم، و { ٱلْقَيِّمُ }: معناه المستقيمُ، و { أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }؛ لجهالتهم وكُفْرهم، ثم نادَى: { يَٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ } ثانيةً؛ لتجتمع أنفسهما، لسماعِ الجواب، فروي أنه قال لنبو: أمَّا أنْتَ، فتعودُ إِلى مرتبتك وسقايةِ ربِّك، وقال لمجلث: أما أنْتَ، فتُصْلَب، وذلك كلَّه بعد ثلاثٍ، فروي أنهما قالا له: ما رَأَيْنَا شيئاً، وإِنما تحالمنا لنجرِّبك، وروي أنه لم يَقُلْ ذلك إِلا الذي حدَّثه بالصَّلْبِ، وقيل: كانا رَأَيَا، ثم أنْكَرا، ثم أخبرهما يوسُفُ عَنْ غَيْبِ عِلمَهُ من اللَّه تعالى، أَن الأمر قد قُضِيَ ووافَقَ القدر.

وقوله: { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا... } الآية: الظَّنُّ؛ هنا: بمعنى اليقين؛ لأن ما تقدَّم من قوله: { قُضِيَ ٱلأَمْرُ } يلزم ذلك، وقال قتادة: الظنُّ هنا على بابه؛ لأن عبارة الرؤْيا ظنٌّ.

قال * ع *: وقول يوسف عليه السلام: { قُضِيَ ٱلأَمْرُ }: دالٌّ على وحْيٍ، ولا يترتَّب قول قتادة إِلا بأَن يكون معنى قوله: { قُضِيَ ٱلأَمْرُ }: أيْ: قُضِيَ كلامِي، وقلْتُ ما عِنْدي، وَتَمَّ، واللَّه أعلم بما يكُونُ بَعْدُ، وفي الآية تأويلٌ آخر: وهو أن يكون «ظَنَّ» مسنداً إِلى الذي قيل له: إِنه يسقي ربه خمراً؛ لأنه داخَلَه السرور بما بُشِّر به، وغلَبَ على ظَنِّه ومعتَقَدِهِ أَنه ناج.