الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } * { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

وقوله سبحانه: { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى ٱللَّهِ... } الآية: إِشارةٌ إِلى دَعْوة الإِسلام والشريعة بأسرها، قال ابن زَيْد: المعنى هذا أمري وسُنَّتي ومِنْهاجي والـــ { بَصِيرَةٍ }: ٱسْمٌ لمعتقد الإِنسان في الأمْر من الحقِّ واليقين.

وقوله: { أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي }: يحتمل أنْ يكون «أَنا» تأكيداً للضمير المستكنِّ في «أَدْعُوا» و«مَنْ» معطوفٌ عليه؛ وذلك بأنْ تكون الأمَّة كلُّها أُمَرَتْ بالمعروف داعية إِلى اللَّه الكَفَرَةَ والعُصَاة.

قال * ص *: ويجوزُ أنْ يكون «أَنا» مبتدأ، و«على بصيرة» خَبرٌ مقدَّم، و«مَنْ» معطوفٌ عليه انتهى، { وَسُبْحَـٰنَ ٱللَّهِ } تنزيهٌ للَّه، أي: وقل: سبحانَ اللَّهِ متبرِّياً من الشِّرْك.

وقوله سبحانه: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم... } الآية: تتضمَّن الردَّ على من ٱستغرب إِرسَالَ الرُّسُل من البَشَرِ، و { ٱلْقُرَىٰ }: المُدُن. قال الحسن: لم يَبْعَثِ اللَّه رسولاً قطُّ من أهْل البادية.

قال * ع *: والتَّبَدِّي مَكْرُوه إِلا في الفتْنَة، وحين يُفَرُّ بالدين، ولا يعترضُ هذا بِبُدُوِّ يعقوب؛ لأن ذلك البُدُوَّ لم يكُنْ في أهْل عمودٍ، بل هو بتَقَرٍّ، وفي منازلَ ورَبوع؛ وأيضاً إِنما جعله بُدُواً بالإِضافة إِلى مصْر؛ كما هي بناتُ الحَوَاضِر بَدْوٌ بالإِضافة إِلى الحواضر، ثم أحال سبحانه على ٱلاعتبار في الأمم السالفة، ثم حَضَّ سبحانه على الآخرة، وٱلاستعداد لها بقوله: { وَلَدَارُ ٱلأَخِرَةِ خَيْرٌ... } الآية.

قال * ص *: { وَلَدَارُ ٱلأَخِرَةِ }: خرَّجه الكوفيُّون على أنَّه من إِضافة الموصُوفِ لصفته، وأصله: «ولَلدَّارُ الآخِرَةُ»، والبصريُّون على أنه من حَذْف الموصوف، وإِقامة صفته مُقَامَهُ، وأصله: «ولَدَارُ المُدَّةِ الآخِرَةِ أو النَّشْأَةِ الآخِرَةِ». انتهى.

ويتضمَّن قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }؛ أن الرسلَ الذين بعثهم اللَّهُ مِنْ أهْل القُرَى، دَعَوْا أممهم، فلم يؤمنوا بهم، حتى نزلَتْ بهم المَثُلاَتُ، فصاروا في حَيِّز مَنْ يُعْتَبَرُ بعاقبته، فلهذا المضمَّن حَسُنَ أَنْ تدخل «حتى» في قوله: { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْـئَسَ ٱلرُّسُلُ }.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: «وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا» - بتشديد الذال -، وقرأ الباقون: «كُذِبُوا» - بضم الكاف، وكسْر الذال المخفَّفة، فأما الأولى، فمعناها أنَّ الرسل ظَنُّوا أن أممهم قَدْ كَذَّبتهم، و«الظَّنُّ»؛ هنا: يحتملُ أنْ يكون بمعنى اليَقِينِ، ويحتمل أنْ يكون الظَّنُّ على بابه، ومعنى القراءة الثانية؛ على المشهور من قول ابن عباس وابنِ جُبَيْر: أي: حتَّى إِذا استيأس الرسُلُ من إِيمان قومِهِم، وظَنَّ المُرْسَلُ إِليهم أَنَّ الرسُلَ قد كَذَبُوهُمْ فيما ٱدعَوْهُ من النبوَّة، أو فيما توعَّدوهم به من العذاب، لما طال الإِمهال، وٱتصلَتِ العافيةُ، جاءهم نَصْرنا، وأسند الطبريُّ أنَّ مسلم بن يَسَارٍ، قال لسعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّه، آيةٌ بَلَغَتْ مِنِّي كُلَّ مبلغٍ: «حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْـئَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ»؛ فهذا هو الموت أَنْ تظنَّ الرسُلُ أنهم قد كُذِبوا - مخفَّفة -، فقال له ابن جُبَيْر: يا أبا عبد الرحمٰنِ، إِنما يَئِسَ الرسُلُ مِنْ قومِهِم؛ أنْ يجيبوهم، وظَنَ قومهم أن الرسل قد كَذَبَتْهُمْ، فقام مُسْلِم إِلى سعيدٍ، فٱعتنقه، وقال: فَرَّجْتَ عني، فَرَّجَ اللَّهُ عنك.

السابقالتالي
2