الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } * { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } * { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } * { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } * { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } * { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

وقوله سبحانه: { خَـٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَاتُ وَٱلأَرْضُ }: يُرْوَى عن ابن عباس: أَنَّ اللَّه خلق السمٰوات والأرْضَ مِنْ نُورِ العَرْشِ، ثم يردهما إِلى هنالك في الآخرة، فلهما ثَمَّ بَقَاءٌ دائمٌ، وقيل: معنى: { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَاتُ وَٱلأَرْضُ }: العبارة عن التأبيدِ بما تَعْهَدُهُ العرب، وذلك أنَّ من فصيح كلامِهَا، إِذا أرادَتْ أَن تخبر عَنْ تأبيد شيء أنْ تقول: لاَ أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا أَمَدَ الدهْرِ، وما نَاحَ الحَمَامُ، وما دامت السمٰوات والأرْضُ، وقيل غير هذا.

قال * ص *: وقيل: المراد سَمٰواتُ الآخرةِ، وأَرْضها؛ يدلُّ عليه قوله:يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [إبراهيم:48] انتهى. وأما قوله: { إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ }: في ٱلاستثناء ثلاثةُ أقوالٍ:

أحدها: أنه متَّصل، أي: إِلا ما شاء ربُّكَ من إِخراج الموحِّدين؛ وعلَى هذا يكونُ قوله: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ... } عاماً في الكَفَرَةِ والعُصَاةِ، ويكون ٱلاستثناء من { خَـٰلِدِينَ } ، وهذا قولُ قتادة وجماعةٍ.

الثَّاني: أنَّ هذا ٱلاستثناء ليس بمتَّصل ولا منقطعٍ، وإِنما هو على طريق ٱلاستثناء الذي نَدَبَ إِليه الشَّرْعُ في كلِّ كلام؛ فهو على نحو قوله:لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَاءَ ٱللَّهُ } [الفتح:27] }.

الثالث: أَنَّ «إِلا» في هذه الآية بمعنى «سوى»، وٱلاستثناء منقطعٌ، وهذا قول الفَرَّاء، فإِنه يقدِّر ٱلاستثناء المنقطع بـــ «سِوَى» وسيبَوَيْهِ يقدِّره بـــ «لكن»، أيْ: سوَى ما شاء اللَّه زائداً على ذلك؛ ويؤيِّد هذا التأويلَ قوله بَعْدُ: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } ، وقيل: سِوَى ما أعد اللَّه لهم من أنواعِ العَذَاب، وأشدُّ من ذلك كلِّه سَخَطُهُ سبحانه عليهم، وقيل: ٱلاستثناء في الآيتين من الكَوْنِ في النار والجنَّة، وهو زمانُ المَوْقِفِ، وقيل: ٱلاستثناءُ؛ في الآية الأولى: من طُول المُدَّة، وذلك على ما روي أَنَّ جهنم تَخْرَبُ، ويُعْدَمُ أهلُها، وتخفقْ أبوابُهَا، فهم على هذا يَخْلُدون حتَّى يصير أمرهم إِلى هذا.

قال * ع *: وهذا قولٌ محتملٌ، والذي رُوِيَ ونُقِل عن ابن مسعود وغيرهِ أنَّ ما يخلى من النَّار إِنما هو الدَّرْكُ الأَعلى المختصُّ بعصاة المؤمنين، وهذا الذي يسمَّى جَهَنَّمَ، وسُمِّي الكلُّ به تجوُّزاً.

* ت *: وهذا هو الصوابُ - إِن شاء اللَّه - وهو تأويل صاحب «العاقبة»؛ أنَّ الذي يَخْرَبُ ما يَخُصُّ عصاةَ المُؤْمِنِين، وتقدَّم الكلام على نظير هذه الآية، وهو قوله في «الأنعام»:خَـٰلِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام:128] }.

قال * ع *: والأقوال المترتِّبة في ٱلاستثناءِ الأوَّلِ مرتبةٌ في ٱلاستثناء الثاني في الذين سعدوا إِلاَّ تأويلَ مَنْ قال: هو ٱستثناء المدة التي تخرَبُ فيها جهنَّم؛ فإِنه لا يترتَّب هنا، والـــ { مَجْذُوذٍ }: المقْطُوع، والإِشارة بقوله: { مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاءِ } إِلى كفَّار العرب، { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } معناه: من العقوبةِ، وقال الداوديُّ عن ابن عباس: { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ }: قال: ما قُدِّر لهم من خَيْرٍ وشرٍّ انتهى.

السابقالتالي
2