الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } * { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

وقوله تعالَىٰ: { ٱهْدِنَا }: رغبة؛ لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغ الأمر كلها، فإِذا كانت من الأعلى، فهي أَمْرٌ.

والهِدَايَةُ؛ في اللغة: الإرشادُ، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسِّرون بغير لفظ الإِرشاد وكلها إِذا تأملت راجِعةٌ إلى الإرشاد، فالهدى يجـيء بمعنى خَلْقِ الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالَىٰ:أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [البقرة:5] ويَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النور:46]، وإِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص:56]فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ } [الأنعام:125] الآية، قال أبو المعالي: فهذه الآيات لا يتجه جلها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد.

وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء؛ كقوله تعالى:وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد:7] أي: داعوَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى:52].

وقد جاء الهُدَىٰ بمعنى الإِلهام؛ من ذلك قوله تعالىٰ:أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه:50].

قال المفسِّرون: ألهم الحيواناتِ كلَّها إِلى منافعها.

وقد جاء الهُدَىٰ بمعنى البيان؛ من ذلك قوله تعالى:وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ } [فصلت:17] قال المفسِّرون: معناه: بيَّنَّا لهم.

قال أبو المعالي: معناه: دعوناهُمْ، وقوله تعالى:إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ } [الليل:12]، أي: علينا أنْ نبيِّن.

وفي هذا كله معنى الإِرشاد.

قال أبو المعالي: وقد ترد الهدايةُ، والمراد بها إِرشاد المؤمنين إِلى مسالك الجِنَانِ والطرقِ المفضيةِ إِلَيْهَا؛ كقوله تعالى في صفة المجاهدين:فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [محمد:4-5] ومنه قوله تعالَىٰ:فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرٰطِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات:23]، معناه: فٱسلكوهم إِليها.

قال: * ع *: وهذه الهدايةُ بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضدُّ الضلالِ، وهي الواقعة في قوله تعالَىٰ: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }؛ على صحيح التأويلات، وذلك بيِّن من لفظ «الصِّرَاط» والصراط؛ في اللغة: الطريقُ الواضِحُ؛ ومن ذلك قول جَرِيرٍ: (الوافر)
أَمِيرُ المُؤْمِنيِنَ عَلَىٰ صِرَاطٍ   إِذَا ٱعْوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ
واختلف المفسِّرون في المعنى الذي استعير له «الصِّراط» في هذا الموضع: فقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: الصراط المستقيم هنا القرآنُ، وقال جابرٌ: هو الإِسلام، يعني الحنيفيَّة.

وقال محمَّد بن الحنفيَّة: هو دينُ اللَّه الذي لا يَقْبَلُ مِن العِبَادِ غيره.

وقال أبو العالية: هو رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بَكْر وعمر، أي: الصراط المستقيم طريقُ محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وهذا قويٌّ في المعنى، إلاَّ أنَّ تسمية أشخاصهم طريقاً فيه تجوُّز، ويجتمع من هذه الأقوال كلِّها أنَّ الدعوة هي أنْ يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام؛ وهو حالُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.

وهذا الدعاء إِنما أمر به المؤمنون، وعندهم المعتقدات، وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قوله: { ٱهْدِنَا } فيما هو حاصل عندهم: التثبيتُ والدوام، وفيما ليس بحاصل، إِما من جهة الجهل به، أو التقصير في المحافظة عليه: طلب الإِرشاد إِليه، فكلُّ داع به إنما يريد الصراط بكماله في أقواله، وأفعاله، ومعتقداته؛ واختلف في المشار إِليهم بأنه سبحانه أنعم عليهم، وقول ابن عبَّاس، وجمهور من المفسِّرين: أنه أراد صراط النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالِحِين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالَىٰ:

السابقالتالي
2 3