الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } * { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } * { فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } * { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } * { فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ } * { وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ }

لما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا، أردفه بكيفية عقوبة الكفار أولئك وغيرهم. وانتصب يوم باذكر. وقرأ الجمهور: { يحشر } مبنياً للمفعول، { وأعداء } رفعاً، وزيد بن عليّ، ونافع، والأعرج، وأهل المدينة: بالنون أعداء نصباً، وكسر الشين الأعرج؛ وتقدم معنى { يوزعون } في النمل، و { حتى }: غاية ليحشروا، { أعداء الله }: هم الكفار من الأولين والآخرين، وما بعد إذا زائدة للتأكيد. وقال الزمخشري: ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها ومثله قوله:أثم إذا ما وقع آمنتم به } [يونس: 51]: أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به. انتهى. ولا أدري أن معنى زيادة ما بعد إذ التوكيد فيها، ولو كان التركيب بغير ما، كان بلا شك حصول الشرط من غير تأخر، لأن أداة الشرط ظرف، فالشهادة واقعة فيه لا محالة، وفي الكلام حذف، التقدير: { حتى إذا ما جاءوها } ، أي النار، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا، { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } بما اكتسبوا من الجرائم، وكانوا حسبوا أن لا شاهد عليهم. ففي الحديث: " أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى، ثم تنطق الجوارح فيقول: تباً لك، وعنك كنت أدافع "

ولما كانت الحواس خمسة: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وكان الذوق مندرجاً في اللمس، إذ بمماسة جلدة اللسان والحنك للمذوق يحصل إدراك المذوق، وكان حسن الشم ليس فيه تكليف ولا أمر ولا نهي، وهو ضعيف، اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس، إذ هذه هي التي جاء فيها التكليف، ولم يذكر حاسة الشم لأنه لا تكليف فيه، فهذه والله أعلم حكمة الاقتصار على هذه الثلاثة. والظاهر أن الجلود هي المعروفة. وقيل: هي الجوارح كنى بها عنها. وقيل: كنى بها عن الفروج. قيل: وعليه أكثر المفسرين، منهم ابن عباس، كما كنى عن النكاح بالسر. { بما كانوا يعملون } من الجرائم. ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم، فلم تذكر سبباً غير أن الله تعالى أنطقها.

ولما صدر منها ما صدر من العقلاء، وهي الشهادة، خاطبوها بقولهم: { لم شهدتم }؟ مخاطبة العقلاء. وقرأ زيد بن علي: لم شهدتن؟ بضمير المؤنثات؟ و { كل شيء }: لا يراد به العموم، بل المعنى: كل ناطق بما ذلك له عادة، أو كان ذلك فيه خرق عادة. وقال الزمخشري: أراد بكل شيء: كل شيء من الحيوان، كما أراد به في قوله:والله على كل شيء قدير } [البقرة: 284]، من المقدورات. والمعنى: أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان، وعلى خلقكم وإنشائكم، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه، وإنما قالوا لهم: { لم شهدتم علينا } لتعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم.

السابقالتالي
2 3 4 5