الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف و مدقق


{ هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } * { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }

ولما وحدوا الله تعالى ورفضوا ما دونه من الآلهة أخذوا في ذم قومهم وسوء فعلهم وأنهم لا حجة لهم في عبادة غير الله، ثم عظموا جرم من افترى على الله كذباً وهذه المقالة يحتمل أن قالوها في مقامهم بين يديّ الملك تقبيحاً لما هو وقومهم عليه وذلك أبلغ في التبرّي من عبادة الأصنام، وأفتّ في عضد الملك إذا اجترؤوا عليه بذم ما هو عليه، ويحتمل أن قالوا ذلك عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه و { هؤلاء } مبتدأ.

و { قومنا } قال الحوفي: خبر و { اتخذوا } في موضع الحال. وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء: { قومنا } عطف بيان و { اتخذوا } في موضع الخبر. والضمير في { من دونه } عائد على الله، ولولا تحضيض صحبه الإنكار إذ يستحيل وقوع سلطان بيَّن على ذلك فلا يمكن فيه التحضيض الصرف، فحضوهم على ذلك على سبيل التعجيز لهم، ومعنى { عليهم } على اتخاذهم آلهة و { اتخذوا } هنا يحتمل أن يكون بمعنى عملوا لأنها أصنام هم نحتوها، وأن تكون بمعنى صيروا، وفي ما ذكروه دليل على أن الدّين لا يؤخذ إلاّ بالحجة والدعوى إذا لم يكن عليها دليل فاسدة وهي ظلم وافتراء على الله وكذب بنسبة شركاء الله.

و { إذ اعتزلتموهم } خطاب من بعضهم لبعض والاعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي، وما معطوف على المفعول في { اعتزلتموهم } أي واعتزلتم معبودهم و { إلاّ الله } استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله { وما يعبدون إلاّ الله }.

وذكر أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله. وقال هذا أيضاً الفرّاء، ومنقطع إن كانوا لا يعرفون الله ولا يعبدونه لعدم اندراجه في معبوداتهم. وفي مصحف عبد الله { وما يعبدون } من دوننا انتهى وما في مصحف عبد الله فيما ذكر هارون إنما أريد به تفسير المعنى. وإن هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم { وما يعبدون } من دون الله وليس ذلك قرآناً لمخالفتها لسواد المصحف، ولأن المستفيض عن عبد الله بل هو متواتر ما ثبت في السواد وهو { وما يعبدون إلاّ الله }. وقيل: { وما يعبدون إلاّ الله } كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله تعالى، فعلى هذا { ما } نافيه و { إلاّ } استثناء مفرغ له العامل.

{ فأووا إلى الكهف } أي اجعلوه مأوى لكم تقيمون فيه وتأوون إليه. وقوله { ينشر } فيه ما كانوا عليه من التوكل حيث أووا إلى كهف، ورتبوا على مأواهم إليه نشر رحمة الله عليهم وتهيئة رفقه تعالى بهم لأن من أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان لا يضيعه، والمعنى أنه تعالى سيبسط علينا رحمته ويهيء لنا ما نرتفق به في أمر عيشنا.

السابقالتالي
2