الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } * { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } * { كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } * { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً }

لما أمر تعالى بثلاثة أشياء، الإيفاء بالعهد، والإيفاء بالكيل، والوزن بالقسطاس المستقيم أتبع ذلك بثلاثة أمّناه: { ولا تقف } { ولا تمش } { ولا تجعل }. ومعنى { ولا تقف } لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، نهى أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم، ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع بما لا يعلم صحته. وقال ابن عباس: معناه لا ترم أحداً بما لا تعلم. وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه. وقال محمد بن الحنيفة: لا تشهد بالزور. وقال ابن عطية: ولا تقل لكنها كلمة تستعمل في القذف والعضة انتهى. وفي الحديث: " من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتي يأتى بالمخرج " وقال في الحديث أيضاً: " نحن بنو النضر بن كنانة لا تقفو منا ولا ننتفي من أبينا " ومنه قول النابغة الجعدي:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن   بهنّ الحيا لا يتبعن التقافيا
وقال الكميت
فلا أرمي البريء بغير ذنب   ولا أقفو الحواضن إن قفينا
وحاصل هذا أنه نهى عن اتباع ما لا يكون معلوماً، وهذه قضية كلية تندرج تحتها أنواع. فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع. قال الزمخشري: وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح لأن ذلك نوع من العلم، وقد أقام الشرع غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به انتهى. وقرأ الجمهور: { ولا تقف } بحذف الواو للجزم مضارع قفا. وقرأ زيد بن عليّ ولا تقفو بإثبات الواو. كما قال الشاعر:
هجوت زبان ثم جئت معتذراً   من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
وإثبات الواو والياء والألف مع الجازم لغة لبعض العرب وضرورة لغيرهم. وقرأ معاذ القارىء: { ولا تقف } مثل تقل، من قاف يقوف تقول العرب: قفت أثره وقفوت أثره وهما لغتان لوجود التصاريف فيهما كجبذ وجذب، وقاع الجمل الناقة وقعاها إذا ركبها، وليس قاف مقلوباً من قفا كما جوّزه صاحب اللوامح. وقرأ الجرّاح العقيلي: { والفؤاد } بفتح الفاء والواو قلبت الهمزة واواً بعد الضمة في الفؤاد ثم استصحب القلب مع الفتح وهي لغة في { الفؤاد } وأنكرها أبو حاتم وغيره وبه لا تتعلق بعلم لأنه يتقدّم معموله عليه. قال الحوفي: يتعلق بما تعلق به { لك } وهو الاستقرار وهو لا يظهر وفي قوله: { إن السمع والبصر والفؤاد } دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول، وجاء هذا على الترتيب القرآني في البداءة بالسمع، ثم يليه البصر، ثم يليه الفؤاد. و { أولئك } إشارة إلى { السمع والبصر والفؤاد } وهو اسم إشارة للجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره.

السابقالتالي
2 3 4 5