الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } * { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلْنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } * { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }

مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما امتن بإيجادهم بعد العدم وإيجاد ما ينتفعون به من الأنعام وغيرها من الركوب، ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان، وما يتولد عنه من أقواتهم وأقواتها من الزرع، وما عطف عليه فذكر منها الأغلب، ثم عمم بقوله: ومن كل الثمرات، ثم أتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم، والنهار الذي هو معاش، ثم بالنيرين اللذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه، ثم بما ذرأ في الأرض.

والظاهر أنّ لكم، في موضع الصفة لماء، فيتعلق بمحذوف، ويرتفع شراب به أي: ماء كائناً لكم منه شراب. ويجوز أن يتعلق بانزل، ويجوز أن يكون استئنافاً، وشراب مبتدأ. لما ذكر إنزال الماء أخذ في تقسيمه. والشراب هو المشروب، والتبعيض في منه ظاهر، وأما في منه شجر فمجاز، لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء كما قال: أسنمة الآبال في ربابه، أي في سحاب المطر. وقال ابن الأنباري: هو على حذف المضاف، إما قبل الضمير أي: ومن جهته، أو سقيه شجر، وإما قبل شجر أي: شرب شجر كقولهوأُشربوا في قلوبهم العجل } [البقرة: 93] أي حبه. والشجر هنا كل ما تنبته الأرض قاله الزجاج. وقال: نطعمها اللحم إذا عز الشجر، فسمى الكلأ شجراً. وقال ابن قتيبة: الشجر هنا الكلأ، وفي حديث عكرمة: " لا تأكلوا الشجر فإنه سحت " يعني الكلأ.

ويقال: أسام الماشية وسومها جعلها ترعى، وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، قال الزجاج: من السومة، وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات. وقرأ زيد بن علي: تسيمون بفتح التاء، فإن سمع متعدياً كان هو وأسام بمعنى واحد، وإن كان لازماً فتأويله على حذف مضاف تسيمون أي: تسيم مواشيكم لما ذكر، ومنه شجر. أخذ في ذكر غالب ما ينتفع به من الشجر إنْ كان المراد من قوله: ومنه شجر العموم، وإن كان المراد الكلأ فهو استئناف اخبار منافع الماء. ويقال: نبت الشيء وأنبته الله فهو منبوت، وهذا قياسه منبت. وقيل: يقال أنبت الشجر لازماً. وأنشد الفراء:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم   قطينا بهم حتى إذا أنبت البقل
أي نبت. وكان الأصمعي يأبى أنبت بمعنى نبت. وقرأ أبو بكر: ننبت بنون العظمة. وقرأ الزهري: ننبت بالتشديد قيل: للتكثير والتكرير، والذي يظهر أنه تضعيف التعدية. وقرأ أبيّ: ينبت من نبت ورفع الزرع وما عطف عليه. وخص الأربعة بالذكر لأنها أشرف ما ينبت، وأجمعه للمنافع. وبدأ بالزرع لأنه قوت أكثر العالم، ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه، وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه، والاطلاء بدهنه، ثم بالنخل لأنّ ثمرته من أطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد، ثم بالأعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال: ومن كل الثمرات، أتى بلفظ مِن التي للتبعيض، لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة.

السابقالتالي
2