الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } * { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

جنب مخففاً، وأجنب رباعياً لغة نجد، وجنب مشدداً لغة الحجاز، والمعنى: منع، وأصله من الجانب.

{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هـذا البلد آمنا واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم }: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر التعجيب من الذين بدلوا نعمة الله كفراً، وجعلوا لله أنداداً وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين اتخذوا آلهة من دون الله، وكان من نعم الله عليهم إسكانه إياهم حرمه، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه صلوات الله عليه دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة، ودعا بأنْ يجنب بنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكنه وذريته في بيته ليعبدوه وحده بالعبادة التي هي أشرف العبادة وهي الصلاة، لينظروا في دين أبيهم، وأنه مخالف لما ارتكبوه من عبادة الأصنام، فيزدجروا ويرجعوا عنها. وتقدم الكلام على قوله هنا هذا البلد معرفاً، وفي البقرة منكراً.

وقال الزمخشري: هنا سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمناً انتهى. ودعا إبراهيم أولاً بما هو على طاعة الله تعالى، وهو كون محل العابد أمناً لا يخاف فيه، إذ يتمكن من عبادة الله تعالى، ثم دعا ثانياً بأن يجنب هو وبنوه من عبادة الأصنام. ومعنى واجنبني وبني: أدمني وإياهم على اجتناب عبادة الأصنام. وأراد بقوله: وبنىَّ أولاده، من صلبه الأقرباء. وأجابه الله تعالى فجعل الحرم آمناً، ولم يعبد أحد من بنيه الأقرباء لصلبه صنماً. قال سفيان بن عيينة: وقد سئل، كيف عبدت العرب الأصنام؟ قال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنماً وكانوا ثمانية، إنما كانت لهم حجارة ينصبوها ويقولون: حجر، فحيث ما نصبوا حجراً فهو بمعنى البيت، فكانوا يدورن بذلك الحجر ويسمونه الدوار انتهى.

قال ابن عطية: وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه، ومن حصل في رتبته فكيف يخاف أن يعبد صنماً؟ لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدي بها في الخوف وطلب الخاتمة. وكرر النداء استعطافاً لربه تعالى، وذكر سبب طلبه: أن يجنب هو وبنوه عبادة الأصنام بقوله: إنهن أضللن كثيراً من الناس، إذ قد شاهد أباه وقومه يعبدون الأصنام. ومعنى أضللنا: كنا سبباً لإضلال كثير من الناس، والمعنى: أنهم ضلوا بعبادتها، كما تقول: فتنتهم الدنيا أي: افتتنوا بها، واغتروا بسببها. وقرأ الجحدري، وعيسى الثقفي: وأجنبني من أجنب، وأنث الأصنام لأنه جمع ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث كما تقول: الأجذاع انكسرت.

السابقالتالي
2