الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }

{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة الأعراف وجاءتا عقب ذكر القرآن والتنبيه على المعاد. ففي الأعراف:ولقد جئناهم بكتاب فصلناه } [الأعراف: 52] وقوله:يوم يأتي تأويله } [الأعراف: 53] وهنا تلك آيات الكتاب. وذكر الإنذار والتبشير وثمرتهما لا تظهر إلا في المعاد. ومناسبة هذه لما قبلها أنّ من كان قادراً على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر في مصالحكم، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته، إذ ليس خلقهم عبثاً بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته، إذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى.

{ يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه }: قال مجاهد: أي يقضيه وحده. والتدبير تنزيل الأمور في مراتبها والنظر في أدبارها وعواقبها، والأمر قيل: الخلق كله علويه وسفليه. وقيل: يبعث بالأمر ملائكة، فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وعزرائيل للقبض، وإسرافيل للصور. وهذه الجملة بيان لعظيم شأنه وملكه. ولما ذكر الإيجاد ذكر ما يكون فيه من الأمور، وأنه لمنفرد به إيجاداً وتدبيراً لا يشركه أحد في ذلك، وأنه لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا بإذنه، إذ هو تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب. وفي هذه دليل على عظم عزته وكبريائه كما قال:يوم يقوم الروح والملائكة صفاً } [النبأ: 38] الآية. ولما كان الخطاب عاماً وكان الكفار يقولون عن أصنامهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ردّ ذلك تعالى عليهم، وناسب ذكر الشفاعة التي تكون في القيامة بعد ذكر المبدأ ليجمع بين الطرفين: الابتداء والانتهاء. وقال أبو مسلم الأصبهاني: الشفيع هنا من الشفع الذي يخالف الوتر، فمعنى الآية: أنه أوجد العالم وحده لا شريك يعينه، ولم يحدث شيء في الوجود إلا من بعد أن قال له: كن. وقال أبو البقاء: يدبر الأمر، يجوز أن يكون مستأنفاً وخبراً ثانياً وحالاً.

{ ذلكم الله ربكم فاعبدوه }: أي المتصف بالإيجاد والتدبير والكبرياء هو ربكم الناظر في مصالحكم، فهو المستحق للعبادة، إذ لا يصلح لأن يعبد إلا هو تعالى، فلا تشركوا به بعض خلقه.

{ أفلا تذكرون }: حض على التدبير والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له.