الرئيسية - التفاسير


* تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل/ الخازن (ت 725 هـ) مصنف و مدقق


{ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ }

{ ودخل معه السجن فتيان } وهما غلامان كانا للوليد بن شروان العمليق ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه وصاحب طعامه والآخر ساقيه وصاحب شرابه وكان قد غضب عليهما الملك فحبسهما، وكان السبب في ذلك أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله وقتله فضمنوا لهذين الغلامين مالاً على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم وقال الخباز لا تشرب فإن الشراب مسموم فقال للساقي اشرب فشربه فلم يضره وقال للخباز كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما مع يوسف وكان يوسف لما دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول إني أعبر الأحلام فقال أحد الغلامين لصاحبه هلم فلنجرب هذا الغلام العبراني فتراءيا له رؤيا فسألاه من غير أن يكونا قد رأيا شيئاً قال ابن مسعود ما رأيا شيئاً إنما تحالما ليجربا يوسف وقال بل كانا قد رأيا رؤيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكرا أنهما غلامان للملك وقد حبسهما وقد رأيا رؤيا قد غمتهما فقال يوسف قصا علي ما رأيتما فقصا عليه ما رأياه ذلك قوله تعالى: { قال أحدهما } وهو صاحب شراب الملك { إني أرأني أعصر خمراً } يعني عنباً سمي العنب خمراً باسم ما يؤول إليه يقال فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن حتى يصير آجراً، وقيل: الخمر العنب بلغة عمان وذلك أنه قال إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد عنب فجنيتها وكان كأس الملك في يدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه { وقال الآخر } وهو صاحب طعام الملك { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه } وذلك أنه قال إني رأيت في المنام كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منها { نبئنا بتأويله } أي أخبرنا بتفسير ما رأينا وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا { إنا نراك من المحسنين } يعني من العالمين بعبارة الرؤيا والإحسان هنا بمعنى العلم، وسئل الضحاك ما كان إحسانه فقال: كان إذا مرض إنسان في الحبس عاده وقام عليه وإذا ضاق على أحد وسع عليه وإذا احتاج أحد جمع له شيئاً مع هذا يجتهد في العبادة يصوم النهار ويقوم الليل كله للصلاة. وقيل: إنه لما دخل السجن وجد فيه قوماً اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسليهم ويقول إصبروا وأبشروا فقالوا بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أين أنت قال أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم فقال له صاحب السجن يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ولكن سأرفق بك وأحسن جوارك واختر أي بيوت السجن شئت وقيل إن الفتيين لما رأيا يوسف قالا إنا قد أحببناك منذ رأيناك فقال لهما يوسف أنشدكما بالله أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من ذلك بلاء وأحبني أبي فألقيت في الجب وأحبتني امرأة العزيز فحبست فلما قصا عليه رؤياهما كره يوسَف أن يعبرها لهما حين سألاه لما علم ما في ذلك من المكروه لأحدهما وأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والنبوة والدعاء إلى التوحيد وقيل إنه عليه السلام أراد أن يبين لهما أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدا فيه وذلك أنهما طلبا منه علم التعبير ولا شك إن هذا العلم مبني على الظن والتخمين فأراد أن يعلمهما أنه يمكنه الإخبار عن المغيبات على سبيل القطع واليقين وذلك مما يعجز الخلق عنه وإذا قدر على الإخبار عن الغيوب كان أقدر على تعبير الرؤيا بطريق الأولى.

السابقالتالي
2