الرئيسية - التفاسير


* تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل/ النسفي (ت 710 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } يعني أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء { بِٱلْبَيِّنَـٰتِ } بالحجج والمعجزات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } أي الوحي. وقيل: الرسل الأنبياء. والأول أولى لقوله { مَعَهُمْ } لأن الأنبياء ينزل عليهم الكتاب { وَٱلْمِيزَانَ } رُوي أن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ } ليتعاملوا بينهم إيفاء واستيفاء { بِٱلْقِسْطِ } بالعدل ولا يظلم أحد أحداً { وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ } قيل: نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة. ورُوي ومعه المرّ والمسحاة. وعن الحسن: وأنزلنا الحديد خلقناه { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } وهو القتال به { وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ } في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها أو ما يعمل بالحديد { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ } باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين. وقال الزجاج: ليعلم الله من يقاتل مع رسوله في سبيله { بِٱلْغَيْبِ } غائباً عنهم { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ } يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته { عَزِيزٌ } يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته. والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة أن الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد والعهود ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان وينهى عن البغي والطغيان، واستعمال العدل والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة يقع بها التعامل ويحصل بها التساوي والتعادل وهي الميزان. ومن المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية إنما تحض العامة على اتباعهما بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد وعنَدَ، ونزع عن صفقة الجماعة اليد. وهو الحديد الذي وصف بالبأس الشديد.

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرٰهِيمَ } خصا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا } أولادهما { ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ } الوحي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الخط بالقلم. يقال: كتب كتاباً وكتابة { فَمِنْهُمْ } فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين { مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ } هذا تفصيل لحالهم أي فمنهم من اهتدى باتباع الرسل، ومنهم من فسق أي خرج عن الطاعة والغلبة للفساق.

{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم } أي نوح وإبراهيم ومن مضى من الأنبياء { بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَءاتَيْنَـٰهُ ٱلإنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً } مودة وليناً { وَرَحْمَةً } تعطفاً على إخوانهم كما قال في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلمرُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29] { وَرَهْبَانِيَّةً } هي ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة وهي الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف. فعلان من رهب كخشيان من خشي.

السابقالتالي
2