الرئيسية - التفاسير


* تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل/ النسفي (ت 710 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } * { للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } * { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }

{ وَإِن كُنتُمْ } أيها المتداينون { عَلَىٰ سَفَرٍ } مسافرين { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـٰنٌ } «فرهان»: مكي وأبو عمرو أي فالذي يستوثق به رهن وكلاهما جمع رهن كسقف وسقف وبغل وبغال، ورهن في الأصل مصدر سمي به ثم كسر تكسير الأسماء. ولما كان السفر مظنة لأعواز الكتب والإشهاد، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد لا أن السفر شرط تجويز الارتهان. وقوله { مَّقْبُوضَةٌ } يدل على اشتراط القبض لا كما زعم مالك أن الرهن يصح بالإيجاب والقبول بدون القبض { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه به فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن { فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } دينه. وائتمن افتعل من الأمن وهو حث للمديون على أن يكون عند ظن الدائن وأمنه منه وائتمانه له، وأن يؤدي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه. وسمي الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } في إنكار حقه { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ } هذا خطاب للشهود { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } ارتفع «قلبه» بـ «آثم» على الفاعلية كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه، أو بالابتداء و«آثم» خبره مقدم والجملة خبر «إن». وإنما أسند إلى القلب وحده والجملة هي الآثمة لا القلب وحده، لأن كتمان الشهادة أن يضمرها في القلب ولا يتكلم بها، فلما كان إثماً مقترفاً مكتسباً بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ كما تقول «هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي»، ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان منه، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب، وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أكبر الكبائر الإشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } من كتمان الشهادة وإظهارها { عَلِيمٌ } لا يخفى عليه شيء. { للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } خلقاً وملكاً { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } يعني من السوء { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } يكافئكم ويجازيكم ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ولكن ما اعتقده وعزم عليه، والحاصل أن عزم الكفر كفر وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة، وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور.

السابقالتالي
2 3