الرئيسية - التفاسير


* تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل/ النسفي (ت 710 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }

{ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِى مَاءكِ } انشفي وتشربي، والبلع: النشف { وَيٰسَمَآء أَقْلِعِى } أمسكي { وَغِيضَ ٱلْمَاء } نقص من غاضه إذا نقصه وهو لازم ومتعد { وَقُضِىَ ٱلاْمْرُ } وأنجز ما وعد الله نوحاً من إهلاك قومه { وَٱسْتَوَتْ } واستقرت السفينة بعد أن طافت الأرض كلها ستة أشهر { عَلَى ٱلْجُودِىّ } وهو جبل بالموصل { وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ لّلظَّـٰلِمِينَ } أي سحقاً لقوم نوح الذين غرقوا. يقال: بعد بعداً وبَعَداً إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ولذلك اختص بدعاء السوء

والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول: إن الله تعالى لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغيض، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، بني الكلام على تشبيه المراد بالأمر الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويراً لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة لإرادته فيها تغييراً وتبديلاً كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده. ثم بنى على تشبيه هذا نظم الكلام فقال عز وجل { وَقِيلَ } على سبيل المجاز على الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو { يا أرض } { ويا سماء } ثم قال مخاطباً لهما { يا أرض } { ويا سماء } على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء تشبيهاً له بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات كتقوي الآكل بالطعام، ثم قال { ماءك } بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز لاتصال الماء بالأرض كاتصال الملك بالمالك، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم التأني، ثم قال { وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا } ولم يصرح بمن أغاض الماء، ولا بمن قضى الأمر، وسوى السفينة وقال بعداً، كما لم يصرح بقائل { يا أرض } { ويا سماء } سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وتكوين مكون قاهر، وأن فاعلها واحد لا يشارك في فعله فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، ولا أن يكون الغائض والقاضي والمسوي غيره.

السابقالتالي
2