الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }

قوله تعالى: { ومنهم من يستمع إليك } سبب نزولها: أن نفراً من المشركين، منهم عتبة، وشيبة، والنضر بن الحارث، وأُميَّةُ وأُبيّ ابنا خلف، جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمعوا إليه، ثم قالوا، للنضر بن الحارث: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بَِنيَّةً ما أدري ما يقول؟ إلا أني أرى تحرك شفتيه وما يقول، إلا أساطير الأولين، مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية؛ وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

فأما «الأكنّة» فقال الزجاج: هي جمع كِنان، وهو الغطاء؛ مثل عِنان وأعِنَّة.

وأما «أن يفقهوه»، فمنصوب على انه مفعول له. المعنى: وجعلنا على قلوبهم أكنَّة لكراهة أن يفقهوه، فلما حذفت اللام، نصبت الكراهة؛ ولما حذفت الكراهة، انتقل نصبُها إلى «أنْ».

«الوقر»: ثِقَلُ السمع، يقال: في أذنه وَقْر، وَقد وُقِرَتِ الأذن، تُوْقَر.

قال الشاعر:
وكلامٌ سَيِّىءٌ قد وُقِرَتْ   أُذُني عنه وما بي من صَمَمْ
والوقِر، بكسر الواو؛ أن يُحَمَّل البعير وغيره مقدار ما يطيق، يقال: عليه وَقْر، ويقال: نخلة موقِر، وموقِرة، وإنما فُعل ذلك بهم مجازاة لهم باقامتهم على كفرهم، وليس المعنى أنهم لم يفهموه، ولم يسمعوه؛ ولكنهم لما عدلوا عنه، وصرفوا فكرهم عما عليهم في سوء العاقبة، كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع. { وإن يروا كل آية } أي: كل علامة تدل على رسالتك، { لا يؤمنوا بها }.

ثم أعلم الله عز وجل مقدار احتجاجهم وجدلهم، وأنهم إنما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا: { إن هذا } أي: ما هذا { إلا اساطير الأولين } وفيها قولان.

أحدهما: أنها ما سُطِّر من أخبارهم وأحاديثهم. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: أساطير الأولين: كذبهم، وأحاديثهم في دهرهم. وقال أبو الحسن الاخفش: يزعم بعضهم: أن واحدة الأساطير: أسطورة. وقال بعضهم: أساطيرة؛ ولا أُراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو: عباديد، ومذاكير، وأبابيل. وقال ابن قتيبة: أساطير الأولين: أخبارهم، وما سطر منها، أي: ما كتب، ومنه قولهنۤ. والقلم وما يسطرون } [القلم: 1] أي: يكتبون، واحدها سطر، ثم أسطار، ثم أساطير جمع الجمع، مثل: قول، وأقوال، وأقاويل.

والقول الثاني: أن معنى أساطير الأولين: الترهات، قال أبو عبيدة: واحد الأساطير: أسطورة، وإسطارة، ومجازها مجاز التُرهات. قال ابن الأنباري: الترهات عند العرب: طرق غامضة، ومسالك مشكلة، يقول قائلهم: قد أخذنا في ترهات البسابس، يعني: قد عدلنا عن الطريق الواضح إلى المشكل؛ وعما يعرف إِلى مالا يعرف. و«البسابس»: الصحاري الواسعة، والتُّرَّهات: طرق تتشعب من الطريق الأعظم، فتكثر وتُشكِل، فجُعلت مثلا لما لا يصح وينكشف.

فان قيل: لم عابوا القرآن بأنه أساطير الأولين، وقد سطر الأولون ما فيه علم وحكمة، وما لا عيب على قائله؟ فعنه جوابان.

السابقالتالي
2