الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } * { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } * { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } * { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } * { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } * { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } * { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ }

{ ولقد خَلَقْنا الإنسان } يعني ابن آدم { ونَعلمُ ما تُوسوِسُ به نَفْسُه } أي: ما تحدِّثه به نفسه. وقال الزجاج: نعلم ما يُكِنُّه في نَفْسه.

قوله تعالى: { ونحن أقربُ إليه } أي: بالعِلْم { من حَبْلِ الوريد } الحَبْل هو الوريد، وإنما أضافه إلى نفسه لِما شرحناه آنفاً في قوله:وحَبَّ الحَصيدِ } [ق:9] قال الفراء: والوريد: عِرْقٌ بين الحُلْقوم والعِلْباوَيْن. وعنه أيضاً قال: عرق بين اللَّبَّة والعِلْباوَيْن. وقال الزجاج: الوريد: عِرْق في باطن العُنُق، [وهما وريدان]، والعِلْباوَان: العَصَبتان الصَّفراوان في مَتْن العُنُق، واللـَّبَّتان: مَجرى القُرط في العُنُق. وقال ابن الأنباري: اللـَّبَّـة حيث يتذبذب القُرْط مِمّا يَقْرُبُ من شحمة الأُذن. وحكى بعض العلماء أن الوريد: عِرْقٌ متفرِّق في البدن مُخالِط لجميع الأعضاء. فلمّا كانت أبعاض الإِنسان يحجب بعضُها بعضاً، أَعْلَمَ أن عِلْمه لا يحجُبه شيءٌ. والمعنى: ونحن أقربُ إليه حين يَتلقَّى المتُلقِّيان، وهما الملَكان الموكَّلان بابن آدم يتلقيَّانِ عَمَلَه وقوله: { إذا يَتلقَّى المُتلقِّيان } أي: يأخُذان ذلك ويُثْبِتانه { عن اليمين } كاتب الحسنات { وعن الشِّمال } كاتب السَّيِّئات. قال الزجاج: والمعنى: عن اليمين قَعيد، وعن الشِّمال قَعيد، فدلَّ أحدُهما على الآخر، فحذف المدلولُ عليه، قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا عِنْـ   دَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقال آخر:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوالِدِي   بَريئاً ومِنْ أَجْلِ الطَّوِىِّ رَمَانِي
المعنى: كنتُ منه بريئاً. وقال ابن قتيبة: القَعيد بمعنى قاعد، كما يقال: «قدير» بمعنى «قادر»، ويكون القعيد بمعنى مُقاعِد، كالأكيل والشَّريب بمنزلة: المُؤاكِل والمُشارِب.

قوله تعالى: { ما يَلْفِظُ } يعني الانسان، أي: ما يتكلَّم من كلام فيَلْفِظُه، أي: يَرميه من فمه، { إلاّ لَدَيْه رقيبٌ } أي: حافظ، وهو الملَك الموكَّل به، إِمّا صاحب اليمين، وإِمّا صاحب الشمال { عَتيدٌ } قال الزجاج: العَتيد: الثّابِت اللاّزم. وقال غيره: العَتيد: الحاضر معه أينما كان. وروى أبو أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كاتِبُ الحَسَنات على يمين الرجلُ، وكاتب السَّيِّئات على يساره، فكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة، وأراد صاحب الشمال أن يكتبها، قال صاحب اليمين: أَمْسِكْ، فيُمْسِك عنه سَبْعَ ساعات، فإن استغفر منها لم يُكتَب عليه شيءٌ، وإن لم يستغفر كُتِب عليه سيِّئة واحدة " وقال ابن عباس: جَعَل اللهُ على ابن آدم حافظين في الليل، وحافظين في النهار. واختلفوا هل يكتُبان جميع أفعاله وأقواله على قولين.

أحدهما: أنهما يكتُبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، قاله مجاهد.

والثاني: أنهما لا يكتبان إلاّ ما يؤجَر [عليه]، أو يُوزَر، قاله عكرمة. فأمّا مجلسهما، فقد نطق القرآن بأنهما عن اليمين وعن الشمال، وكذلك ذكرنا في حديث أبي أمامة.

السابقالتالي
2 3