الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { وحسبوا أن لا تكون فتنة } قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: «تكون» بالنصب، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «تكون» بالرفع، ولم يختلفوا في رفع «فتنة». قال مكي بن أبي طالب: من رفع جعل «أن» مخفّفة من الثقيلة، وأضمر معها «الهاء» وجعل «حسبوا» بمعنى: أيقنوا، لأن «أن» للتأكيد، والتأكيد لا يجوز إِلا مع اليقين. والتقدير: أنه لا تكون فتنة. ومن نصب جعل «أن» هي الناصبة للفعل، وجعل «حسبوا» بمعنى: ظنوا. ولو كان قبل «أن» فعلٌ لا يصلح للشك، لم يجز أن تكون إِلا مخففة من الثقيلة، ولم يجز نصب الفعل بها، كقوله:أفلا يرون ألا يرجع إِليهم } [طه: 89] وعلم أن سيكون } [المزمل: 20] وقال أبو علي: الأفعال ثلاثة: فعلٌ يدلُ على ثبات الشيء واستقراره، نحو العلم والتيقّن، وفعلٌ يدلُ على خلاف الثبات والاستقرار، وفعلٌ يجذب إِلى هذا مرة، وإِلى هذا أُخرى، فما كان معناه العلم، وقعت بعده «أن» الثقيلة، لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره، كقوله:ويعلمون أن الله هو الحق المبين } [النور: 25]ألم يعلم بأن الله يرى } [العلق: 14] وما كان على غير وجه الثبات والاستقرار نحو: أطمع وأخاف وأرجو، وقعت بعده «أن» الخفيفة، كقوله:فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله } [البقرة: 229]تخافون أن يتخطفكم الناس } [الأنفال: 26]فخشينا أن يرهقهما } [الكهف: 80]أطمع أن يغفر لي } [الشعراء: 82] وما كان متردداً بين الحالين مثل حسبتُ وظننت، فإنه يُجعلُ تارةً بمنزلة العلم، وتارةً بمنزلة أرجو وأطمع وكلتا القراءتين في { وحسبوا ألا تكون فتنة } قد جاء بها التنزيل. فمثل مذهب من نصبأم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم } [الجاثية: 21]أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } [العنكبوت: 4]أحسب الناس أن يتركوا } [العنكبوت: 2] ومثلُ مذهب مَنْ رفعأيحسبون أنما نمدّهم } [المؤمنون: 55]أم يحسبون انا لا نسمع سرهم } [الزخرف: 80].

قال ابن عباس: ظنوا أن الله لا يعذبهم، ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء، وتكذبيهم الرسل.

قوله تعالى: { فعموا وصموا } قال الزجاج: هذا مثل تأويله: أنهم لم يعملوا بما سمعوا، ورأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصمّ.

قوله تعالى: { ثم تاب الله عليهم } فيه قولان.

أحدهما: رفع عنهم البلاء، قاله مقاتل. وقال غيره: هو ظفرهم بالأعداء، وذلك مذكور في قولهثم رددنا لكم الكرة عليهم } [الاسراء: 6].

والثاني: أن معنى «تاب عليهم»: أرسل إِليهم محمداً يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إِن آمنوا وصدقوا، قاله الزجاج. وفي قوله: { ثم عموا وصموا } قولان.

أحدهما: لم يتوبوا بعد رفع البلاء، قاله مقاتل.

والثاني: لم يؤمنوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج.

قوله تعالى: { كثيرٌ منهم } أي: عمي وصم كثيرٌ منهم، كما تقول: جاءني قومُك أكثرُهم. قال ابن الأنباري: هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يُبعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث كذبوه بغياً وحسداً، وقدَّروا أن هذا الفعل لا يكون مُوبقاً لهم، وجانياً عليهم، فقال الله تعالى: { وحسبوا أن لا تكون فتنة } أي: ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإِصرار على الكفر، فعموا وصموا بمجانبة الحق. { ثم تاب الله عليهم } أي: عرَّضهم للتوبة بأن أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وإِن لم يتوبوا، ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد، كثيرٌ منهم، فخصّ بعضهم بالفعل الأخير، لأنهم لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم.