الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } * { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } * { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً }

قوله تعالى: { إِنّا فَتَحْنا لك فَتْحاً مُبِيناً.. } [الآية] سبب نزولها: أنه لمَا نزل قوله:وما أَدري ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُم } [الأحقاف: 9] قال اليهود: كيف نتَّبع رجُلاً لا يَدري ما يُفْعَلُ به؟! فاشتدَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.

وفي المراد بالفتح أربعة أقوال.

أحدها: أنه كان يومَ الحديبية، قاله الأكثرون. قال البراء بن عازب: نحن نَعُدُّ الفتح بَيْعةَ الرِّضْوان. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه وما تأخَّر، وأُطعموا نخل خيبر، وبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه، وظَهرت الرُّومَ على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس قال الزهري: لم يكن فتحٌ أعظمَ من صُلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكَّن الإِسلامُ في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خَلْقٌ كثير، وكَثُر بهم سواد الإِسلامُ. قال مجاهد: يعني بالفتح ما قضى اللهُ له من نحر الهَدْي بالحديبية وحَلْق رأسه. وقال ابن قتيبة: " إِنّا فَتَحْنا لك فتحاً مُبيناً " أي: قَضَيْنا لك قضاءً عظيماً، ويقال للقاضي: الفتَّاح. قال الفراء: والفتح قد يكون صُلحاً، ويكون أَخْذَ الشيء عَنْوةً، ويكون بالقتال. وقال غيره: معنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصُّلْح الذي جُعل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذِّراً حتى فتحه الله تعالى.

الإِشارة إِلى قصة الحديبية:

روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في النَّوم كأن قائلاً يقول [له] لَتَدْخُلُنْ المسجد الحرام إِن شاء اللهُ آمنين، فأصبح فحدَّث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج للعُمْرة؛ فذكر أهلُ العِلْم بالسِّيَرِ أنَّه خرج واستنفر أصحابَه للعمرة، وذلك في سنة ست، ولم يخرج بسلاح إِلاّ السيوف في القُرُب، وساق هو وأصحابُه البُدْنَ، فصلَّى الظُّهر بـ " ذي الحُلَيْفة " ، ثم دعا بالبُدْنِ فجُلِّلَتْ، ثم أشعرها وقلَّدها، فعل ذلك أصحابه، وأحرم ولبَّى. فبلغ المشرِكينَ خروجُه فأجمع رأيُهم على صدِّه عن المسجد الحرام، وخرجوا حتى عسكروا بـ " بَلْدَح " وقدَّموا مائتي فارس إِلى كُراع الغميم، وسار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى دنا من الحديبية؛ قال الزجاج: وهي بئر، فسمِّي المكان باسم البئر؛ قالوا: وبينها وبين مكة تسعة أميال، فوقفت يَدَا راحلته فقال المسلمون: حَلْ حَلْ، يزجرونها، فأبَتْ فقالوا: خَلأَتْ القصْواءُ ـ والخِلاءُ في النّاقة مثل الحِران في الفَرَس. فقال: " ما خَلأَتْ، ولكن حَبَسها حابِسَ الفِيلِ، أما واللهِ لا يسألوني خُطَّةً فيها تعظيمُ حُرْمة اللهِ إِلاّ أعطيتُهم إِيّاها " ، ثم جرَّها فقامت، فولَّى راجعاً عَوْده على بَدْئه حتى نزل على ثمد من أثماد الحديبية قليلِ الماء، فانتزع سهماً من كنانته فغرزه فيها، فجاشت لهم بالرَّواء، وجاءه بُدَيْل بن ورقاء في ركب فسلَّموا وقالوا: جئناك من عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، يُقْسِمون، لا يُخَلُّون بينك وبين البيت حتى تُبيد خَضْراءَهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

السابقالتالي
2