الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } * { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } * { وَلَن يَنفَعَكُمُ ٱلْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي ٱلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } * { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }

قوله تعالى: { ومن يَعْشُ } فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: يُعْرَضْ، قاله الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والفراء، والزجاج.

والثاني: يَعْمَ، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال عطاء، وابن زيد.

والثالث: أنه البَصَر الضعيف، حكاه الماوردي. وقال أبوعبيدة: تُظْلِمْ عينه عنه. وقال الفراء: من قرأ: " يَعْشُ " ، فمعناه: يُعْرِضْ، ومن نصب الشين، أراد: يَعْمَ عنه؛ قال ابن قتيبة: لا أرى القول إلاّ قولَ أبي عبيدة، ولم نر أحداً يجيز " عَشَوْتُ عن الشيء ": أعرضتُ عنه، إِنما يقال: " تَعاشَيْتُ عن كذا " ، أي: تغافلتُ عنه، كأنِّي لم أره. ومثلُه: تعامَيْتُ والعرب تقول: " عَشَوْتُ إِلى النار ": إِذا استدللتَ إِليها ببصر ضعيف، قال الحطيئة:
متَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلى ضَوْءِ نَارِهِ   تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ
ومنه حديث ابن المسّيب: " أن إحدى عينَيْه ذهبتْ، وهو يَعْشُو بالأًخرى " ، أي: يُبْصِر بها بصراً ضعيفاً. قال المفسرون: " ومَنْ يَعْشُ عن ذِكْر الرحمن " فلم يَخَف عِقابه ولم يلتفت إِلى كلامه " نقيِّضْ له " أي: نسبب له " شيطاناً " فنجعل ذلك جزاءَه " فهو له قرين " لا يفارقه.

{ وإِنهم } يعني الشياطين { لَيَصُدُّونهم } يعني الكافرين، أي: يمنعونهم عن سبيل الهدى؛ وإِنما جمع، لأن { مَنْ } في موضع جمع، { وَيحْسَبون } يعني كفار بني آدم (أنهم) على هدىً.

{ حتَّى إذا جاءنا } وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: { جاءنا } واحد، يعني الكافر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: { جاءانا } بألفين على التثنية يعنون الكافر وشيطانه. وجاء في التفسير: أنهما يُجعلان يومَ البعث في سلسلة، فلا يفترقان حتى يًصَيِّرَهما الله إِلى النار، { قال } الكافر للشيطان: { يا ليت بيني وبينَك بُعدَ المَشْرِقَيْنِ } أي: بُعْدَ ما بين المَشْرِقَيْن؛ وفيهما قولان:

أحدهما: أنهما مَشْرِقُ الشمس في أقصر يوم في السنة، ومَشْرِقُها في أطول يوم، قاله ابن السائب، ومقاتل.

والثاني: أنه أراد المَشْرِق والمَغْرِب، فغلَّب ذِكْر المَشْرِق، كما قالوا سُنَّة العُمَرَيْن، يريدون: أبا بكر وعمر، وأنشدوا من ذلك:
أَخَذْنا بِآفاقِ السَّماءِ عَلَيْكُمُ   لَنا قَمراها والنُّجُومُ الطَّوالِعُ
يريد: الشمس والقمر؛ وأنشدوا:
فَبَصْرَةُ الأزّدِ مِنَّا والعِراقُ لَنا   والمَوْصِلانِ ومِنَّا مِصْرُ والحَرَمُ
يريد: الجزيرة والموصل، [وهذا اختيار الفراء، والزجاج].

قوله تعالى: { فبِئْسَ القَرِينُ } أي: أنتَ أيُّها الشَّيطان. ويقول الله عز وجل يومئذ للكفار: { ولن ينفَعَكم اليومَ إِذ ظَلَمْتُم } أي: أشركتم في الدنيا { أنَّكم في العذاب مشترِكون } أي: لن ينفعكم الشِّركة في العذاب، لأن لكل واحد منه الحظَّ الأوفر. قال المبرِّد: مُنِعوا روح التَّأسِّي، لأن التَّأسِّيَ يُسهِّل المُصيبة، وأنشد للخنساء أخت صخر بن مالك في هذا المعنى:
ولَوْلا كَثْرَةُ الباكينَ حَوْلِي   على إِخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخي ولكِنْ   أُعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بالتَّأسِّي
وقرأ ابن عامر: { إِنَّكم } بكسر الألف.

ثم أخبر عنهم بما سبق لهم من الشَّقاوة بقوله: { أفأنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ... } الآية.