الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } * { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ } * { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } * { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } * { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } * { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ }

{ لقد حَقَّ القولُ } فيه قولان.

أحدهما: وجب العذاب.

والثاني: سبق القول بكفرهم.

قوله تعالى: { على أكثرهم } يعني أهل مكة، وهذه إِشارة إِلى إِرادة الله تعالى السابقة لكفرهم { فهم لا يؤمنون } لِمَا سبق من القَدَر بذلك.

{ إنَّا جَعَلْنا في أعناقهم أغلالاً } فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها مَثَلٌ، وليس هناك غُلٌّ حقيقة، قاله أكثر المحقِّقين، ثم لهم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها مَثَل لمنعهم عن كل خير، قاله قتادة. والثاني: لحبسهم عن الإِنفاق في سبيل الله بموانع كالأَغلال، قاله الفراء، وابن قتيبة. والثالث: لمنعهم من الإِيمان بالله، قاله أبو سليمان الدمشقي.

والقول الثاني: أنها موانع حسِّيَّة مَنَعَتْ كما يَمنع الغُلُّ؛ قال مقاتل بن سليمان: حلف أبو جهل لئن رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصليِّ لَيَدْمَغَنَّهُ، فجاءه وهو يصليِّ، فرفع حجراً فيَبِسَتْ يدُه والتصق الحجر بيده، فرجَع إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، فقام رجل منهم فأخذ الحجر، فلمَّا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم طَمَسَ اللهُ على بصره فلم يره، فرجَع إلى أصحابه فلم يُبْصِرهم حتى نادَوْه، فنزل في أبي جهل: { إِنّا جَعَلْنا في أعناقهم أغلالاً... } الآية. ونزل في الآخر: { وجَعَلْنا مِنْ بين أيديهم سَدّاً }.

والقول الثالث: أنه على حقيقته، إلاَّ أنَّه وَصْفٌ لِمَا سيُنْزِلُه اللهُ تعالى بهم في النار، حكاه الماوردي.

قوله تعالى: { فهي إلى الأذقان } قال الفراء: " فهي " كناية عن الأيمان، ولم تُذْكَر، لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في اليمين والعنق جامعاً لهما، فاكتُفيَ بذكر أحدهما عن صاحبه. وقال الزجّاج: " هي " كناية عن الأيدي، ولم يذكرها إيجازاً، لأن الغُلَّ يتضمن اليد والعنق، وأنشد:
وما أدري إذا يَمَّمْتُ أرضاً   أُريدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِيني
وإنما قال: أَيُّهما، لأنه قد علم أن الخير والشرَّ معرَّضان للإنسان. قال الفراء: والذَّقْن: أسفل اللَّحْيَيْن، والمُقْمَحُ: الغاضّ بصره بعد رفع رأسه، قال أبو عبيده: كل رافعٍ رأسَه فهو مُقَامِح وقَامِح، والجمع قِماح، فإن فُعل ذلك بإنسان فهو مُقْمَح، ومنه هذه الآية. وقال ابن قتيبة: يقال بعيرٌ قامِحٌ وإبلٌ قِماحٌ: إذا رَوِيَتْ من الماء فقَمَحَتْ، قال الشاعر ـ وذكر سفينة ـ:
ونحنُ على جَوانِبِها قُعُودٌ   نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِمَاحِ
وقال الأزهري: المُراد أنَّ أيديهم لمّا غُلَّت عند أعناقهم، رَفَعَتْ الأغلالُ أذقانَهم ورؤوسَهم، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إيَّاها.

قوله تعالى: { وجَعَلْنا مِنْ بينِ أيديهم سَدّاً } قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بفتح السين، والباقون: بضمها، وقد تكلَّمنا على الفَرْق [بينهما] في [الكهف: 94]. وفي معنى الآية قولان:

أحدهما: منعناهم عن الإِيمان بموانع، فهم لا يستطيعون الخروج عن الكفر.

والثاني: حجبناهم عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظُّلمة لمّا قصدوه بالأذى.

السابقالتالي
2