قوله تعالى: { مِنَ المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه } اختلفوا فيمن نزلت على قولين. أحدهما: أنها نزلت في أنس بن النضر، قاله أنس بن مالك. وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال: غاب عمِّي أَنَس بن النَّضْر عن قتال بدر، فلمَّا قَدِم قال: غِبْتُ عن أوَّل قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن أشهدني اللّهُ عز وجل قتالاً لَيَرَيَنَّ اللّهُ ما أصنع، فلمّا كان يوم أُحُدٍ انكشف الناسُ، فقال: اللهم إِني أبرأُ إِليكَ ممَّا جاء به هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر إِليك ممَّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين؛ ثم مشى بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد، والذي نفسي بيده إِني لأجد ريح الجنة دون أُحُد، واهاً لريح الجنة. قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع؛ قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بِضْع وثمانون جِراحة، من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورَمْيَة بسهم، قد مثَّلوا به؛ قال: فما عرفناه حتى عرفتْه أختُه بِبَنانه؛ قال أنس: فكنّا نقول: أُنزلت هذه الآية { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } فيه وفي أصحابه. والثاني: أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله، روى النزَّال بن سَبْرة عن عليّ عليه السلام أنهم قالوا له: حدِّثنا عن طلحة، قال: ذاك امرؤٌ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى { فمنهم من قضى نحبه } لا حساب عليه فيما يستقبل. وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة، وأولها في أنس. قال ابن جرير: ومعنى الآية: وَفَواْ لله بما عاهدوه عليه. وفي ذلك أربعة أقوال. أحدها: أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإِسلام والنصرة. والثاني: أنهم قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا الله أن لا يتأخَّروا بعدها. والثالث: أنهم عاهدوا أن لا يفرُّوا إِذا لاقَواْ، فصَدَقوا. والرابع: أنهم عاهدوا على البأساء والضرَّاء وحين البأس. قوله تعالى: { فمنهم من قضى نَحْبه ومنهم من يَنْتَظِرُ } فيه ثلاثة أقوال. أحدها: فمنهم من مات، ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس. والثاني: فمنهم من قضى عهده قُتل أو عاش. ومنهم من ينتظر أن يقضيَه بقتال أو صدق لقاءٍ، قاله مجاهد. والثالث: فمنهم من قضى نَذْره الذي كان نذر، قاله أبو عبيدة. فيكون النَّحْب على القول الأول: الأَجْل؛ وعلى الثاني: العهد؛ وعلى الثالث: النَّذْر. وقال ابن قتيبة: { قضى نحبه } أي: قُتل، وأصل النَّحْب: النَّذْر، كأن قوماً نذورا أنهم إِن لَقُوا العدوَّ قاتَلوا حتى يُقتَلوا أو يَفتَح اللّهُ عليهم، فقُتِلوا، فقيل: فلان قضى نَحْبَه، أي: قُتِل، فاستعير النَّحْب مكان الأَجَل، لأن الأَجَل وقع بالنَّحْب، وكان النَّحْبُ سبباً له، ومنه قيل: للعطيَّة: «مَنْ»، لأن من أعطى فقد مَنَّ.