الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ قُل رَّبِّيۤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ } * { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ ٱللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

قوله تعالى: { إِنَّ الذي فَرَضَ عليكَ القُرآنَ } قال مقاتل: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار ليلاً، فمضى من وجهه إِلى المدينة فسار في غير الطريق مخافة الطَّلب؛ فلمَّا أَمِن رجع إِلى الطريق فنزل الجُحْفَةَ بين مكة والمدينة، فعرف الطريق إِلى مكة، فاشتاق إِليها، وذكر مولده، فأتاه جبريل فقال: أتشتاق إِلى بلدك ومولدك؟ قال: نعم؛ قال: فان الله تعالى يقول: { إِنَّ الذي فَرَضَ عليك القرآن لرادُّك إِلى مَعَادٍ } ، فنزلت هذه الآية بالجُحْفة.

وفي معنى { فَرَضَ عليكَ } ثلاثة أقوال.

أحدها: فرض عليك العمل بالقرآن، قاله عطاء بن أبي رباح، وابن قتيبة.

والثاني: أعطاك القرآن، قاله مجاهد.

والثالث: أنزل عليك القرآن، قاله مقاتل، والفراء، وأبو عبيدة.

وفي قوله: { لرادُّكَ إِلى مَعادٍ } أربعة أقوال.

أحدها: إِلى مكة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية، والضحاك. قال ابن قتيبة: مَعَادُ الرَّجُل: بلدُه، لأنه يتصرَّف [في البلاد ويَضْرِب في الأرض] ثم يعود إِلى بلده.

والثاني: إِلى معادك من الجنة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والزهري. فإن اعتُرض على هذا فقيل: الرَّدُّ يقتضي أنه قد كان فيما رُدَّ إِليه؛ فعنه ثلاثة أجوبة.

أحدها: أنَّه لمَّا كان أبوه آدم في الجنة ثم أُخرج، كان كأنَّ ولده أُخرج منها، فاذا دخلها فكأنه أُعيد.

والثاني: أنَّه دخلها ليلة المعراج، فاذا دخلها يوم القيامة كان ردّاً إِليها، ذكرهما ابن جرير.

والثالث: أن العرب تقول: رجع الأمر إِلى كذا، وإِن لم يكن له كَوْن فيه قطّ، وأنشدوا:
[وما المَرْءُ إِلاَّ كالشِّهَابِ وضَوْئِهِ]   يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذ هُوَ سَاطِعُ
وقد شرحنا هذا في قولهوإِلى الله تُرْجَعُ الأمور } [البقرة:210].

والثالث: لَرَادُّك إِلى الموت، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال أبو سعيد الخدري.

والرابع: لَرَادُّك إِلى القيامة بالبعث، قاله الحسن، والزهري، ومجاهد في رواية، والزجاج.

ثم ابتدأ كلاماً يَرُدُّ به على الكفار حين نسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إِلى الضَّلال، فقال: { قُلْ رَبِّي أعلمُ مَنْ جاء بالهُدى }؛ والمعنى: قد علم أنِّي جئت بالهُدى، وأنَّكم في ضلال مبين، ثم ذَكَّرهُ نِعَمَه فقال: { وما كُنْتَ ترجو أن يُلْقَى إِليكَ الكتابُ } أي: أن تكون نبيّاً وأن يوحى إِليكَ القرآنُ { إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ ربِّكَ } قال الفراء: هذا استثناء منقطع، والمعنى: إِلاَّ أنَّ ربَّكَ رَحِمَكَ فأنزله عليك { فلا تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } أي: عَوْناً لهم على دينهم، وذلك أنَّهم دَعوه إِلى دين آبائه فأُمر بالاحتراز منهم؛ والخطاب بهذا وأمثاله له، والمراد أهل دينه لئلاَّ يُظاهِروا الكفَّار ولا يوافقوهم.

قوله تعالى: { كُلُّ شيء هالكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } فيه قولان.

أحدهما: إِلا ما أُرِيدَ به وجهُه، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الثوري. والثاني: إِلاَّ هو، قاله الضحاك، وأبو عبيدة.

قوله تعالى: { لَهُ الحُكْم } أي: الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره { وإِليه تُرْجَعُونَ } في الآخرة.