الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ } * { وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ }

قوله تعالى: { فَخَسَفْنَا به وبداره الأرض } لمَّا أمر قارونُ البَغِيَّ بقذف موسى على ما سبق شرحه [القصص:76] غضب موسى فدعا عليه، فأوحى الله تعالى إِليه. إِنِّي قد أمرت الأرض أن تُطيعَك فَمُرْها؛ فقال موسى: يا أرض خُذيه، فأخذتْه حتى غيَّبَتْ سريره، فلمَّا رأى ذلك ناشده بالرَّحم، فقال: خُذيه، فأخذته حتى غيَّبتْ قدميه؛ فما زال يقول: خُذيه، حتى غيَّبتْه، فأوحى الله تعالى إِليه: يا موسى ما أفظَّك، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته. قال ابن عباس: فخُسفتْ به الأرضُ إِلى الأرض السفلى. وقال سَمُرَة بنُ جنْدَب: إِنَّه يُخسف به كلَّ يوم قامة، فتبلغ به الأرض السفلى يوم القيامة. وقال مقاتل: فلمَّا هلك قارون قال بنو إِسرائيل: إِنَّما أهلكه موسى ليأخذ ماله وداره، فخَسَفَ اللّهُ بداره وماله بعده بثلاثة أيام.

قوله تعالى: { يَنْصُرونه مِنْ دون الله } أي: يمنعونه من الله { وما كان من المُنْتَصِرِين } أي: من الممتنعين ممَّا نزل به. ثم أعلَمنا أن المتمنِّين مكانه ندموا على ذلك التمنِّي بالآية التي تلي هذه.

وقوله تعالى: { لَخُسف بنا } الأكثرون على ضم الخاء وكسر السين. وقرأ يعقوب، والوليد عن ابن عامر، وحفص، وأبان عن عاصم: بفتح الخاء والسين.

فأما قوله: { وَيْكَ } فقال ابن عباس: معناه: ألم تر. وكذلك قال أبو عبيده، والكسائي. وقال الفراء: «وَيْكَ أن» في كلام العرب تقرير، كقول الرجل: أما ترى إِلى صنع الله وإِحسانه، أنشدني بعضهم:
وَيْكَ أَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْـ   ـبَبْ ومَنْ يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ
وقال ابن الأنباري: في قوله: { وَيْكَ أنَّه } ثلاثة أوجه.

إِن شئت قلت: «وَيْكَ» حرف، و «أنَّه» حرف؛ والمعنى: ألم تر أنَّه، والدليل على هذا قول الشاعر:
سالَتَاني الطَّلاق أنْ رَأَتَاني   قَلَّ مالي قَدْ جِئْتُمَاني بِنُكْرِ
وَيْكَ أَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْـ   ـبَبْ ومَن يفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْش ضُرِّ
والثاني: أن يكون «وَيْكَ» حرفاً، و «أَنَّه» حرفاً، والمعنى: ويلك اعلمْ أنَّه، فحذفت اللام، كما قالوا: قم لا أباك، يريدون: لا أبالك، وأنشدوا:
أَبِالْمَوْتِ الذي لا بُدَّ أنِّي   مُلاقٍ لا أَبَاكِ تُخَوِّفِيني
أراد: لا أَبَالَكِ، فحذف اللام.

والثالث: أن يكون «وَيْ» حرفاً، و «كأنَّه» حرفاً، فيكون معنى «وَيْ» التعجُّب، كما تقول وَيْ لِمَ فعلت كذا وكذا، ويكون معنى «كأنَّه»: أظُنُّه وأعلمُه، كما تقول في الكلام: كأنَّك بالفَرَج قد أَقْبَل؛ فمعناه: أظُنُّ الفَرَجُ مقْبِلاً، وإِنما وصلوا الياء بالكاف في قوله: «وَيْكأنَّه» لأنَّ الكلام بهما كَثُر، كما جعلوايا ابْنَ أُمَّ } في المصحف حرفاً واحداً، وهما حرفان [طه:94]. وكان جماعة منهم يعقوب، يقفون على «وَيْكَ» في الحرفين، ويبتدؤون «أنّ» و«أنَّه» في الموضعين. وذكر الزجَّاج عن الخليل أنه قال: «وَيْ» مفصولة من «كأنَّ»، وذلك أنَّ القوم تندَّموا فقالوا: «وَيْ» متندِّمين على ما سلف منهم، وكلُّ مَنْ نَدِم فأظهر ندامته قال: وَيْ. وحكى ابن قتيبة عن بعض العلماء أنَّه قال: معنى «ويكأنَّ»: رحمةً لك، بلغة حِمْيَر.

قوله تعالى: { لولا أنْ مَنَّ اللّهُ علينا } أي: بالرحمة والمعافاة والإِيمان { لَخَسَف بِنَا }.