الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } * { وَقَالُوۤاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ }

قوله تعالى: { إِنَّكَ لا تَهْدي مَنْ أحببتَ } قد ذكرنا سبب نزولها عند قوله:ما كان للنَّبيِّ والذين آمنوا أن يَسْتَغْفِروا للمُشْرِكين } [التوبة:113]، وقد روى مسلم فيما انفرد به عن البخاري من حديث أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمِّه «قل: لا إِله إِلا الله أشهد لك بها يوم القيامة»، فقال: لولا أن تُعيِّرني نساءُ قريش، يقلن: إِنَّما حمله على ذلك الجزع، لاقررتُ بها عينك، فأنزل الله عز وجل: { إِنَّك لا تهدي مَنْ أحببت } " قال الزجاج: أجمع المفسرون أنها نزلت في أبي طالب. وفي قوله: { مَنْ أحببتَ } قولان.

أحدهما: من أحببتَ هدايته.

والثاني: من أحببتَه لقرابته.

{ ولكنَّ الله يهدي من يشاء } أي: يُرْشِد لِدِينه من يشاء { وهو أعلمُ بالمهتدين } أي: من قدَّر له الهُدى.

قوله تعالى: { وقالوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدى معكَ } قال ابن عباس في رواية العوفي: هم ناس من قريش قالوا ذلك. وقال في رواية ابن أبي مُلَيْكة: إِنَّ الحارث بن عامر بن نوفل قال ذلك. وذكر مقاتل أن الحارث بن عامر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّا لَنعلم أنَّ الذي تقول حق، ولكن يمنعنا ان نتَّبع [الهُدى] معك مخافة أن تتخطَّفنا العرب من أرضنا، يعنون مكة. ومعنى الاية: إِن اتَّبعناك على دينك خِفْنا العرب لمخالفتنا إِياها. والتَّخَطُّف: الانتزاع بسرعة؛ فردَّ اللّهُ عليهم قولهم، فقال: { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لهم حَرَماً } أي: أَوَلَمْ نُسْكِنْهم حَرَماً ونجعله مكاناً لهم، ومعنى { آمِناً }: ذو أمن يأمن فيه الناس، وذلك أن العرب كان يُغِير بعضُها على بعض، وأهل مكة آمنون في الحرم من القتل والسَّبي والغارة، أي: فكيف يخافون إِذا أسلموا وهم في حرم آمن؟! { يُجْبي } [قرأ نافع: { تُجْبي } بالتاء]، أي: تُجْمَع إِليه وتُحمل من [كل] النواحي الثمرات، { رزْقاً مِنْ لَدُنَّا } أي: مِنْ عندنا { ولكنَّ أكثرهم } يعني أهل مكة { لا يَعْلَمون } أنَّ الله هو الذي فعل بهم ذلك فيشكرونه. ومعنى الآية: إِذا كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبُدون غيري، فكيف تخافون إِذا عَبَدتموتي وآمنتم بي؟! ثم خوَّفهم عذاب الأمم الخالية فقال: { وكم أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشتَها } قال الزجاج: { معيشتَها } منصوبة باسقاط «في»، والمعنى: بَطِرَتْ في معيشتها، والبطر: الطُّغيان في النِّعمة. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام.

قوله تعالى: { فتلك مساكنُهم لَمْ تُسْكَن مِنْ بَعدهم إِلاَّ قليلاً } قال ابن عباس: لم يسكُنْها إِلاَّ المسافرون ومارُّ الطريق يوماً أو ساعة، والمعنى: لم تُسْكَن من بعدهم إِلا سُكُوناً قليلاً { وكُنَّا نحن الوارثين } أي: لم يَخْلُفهم أحد بعد هلاكهم في منازلهم، فبقيتْ خراباً غير مسكونة.