الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } * { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } * { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } * { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } * { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا بِٱلْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ ٱللاَّعِبِينَ } * { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } * { وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } * { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ }

قوله تعالى: { ولقد آتينا إِبراهيم رُشْدَهُ } أي: هُداه { مِنْ قَبْلُ } وفيه ثلاثة أقوال.

أحدها: من قبل بلوغه، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: آتيناه ذلك في العِلْم السابق، قاله الضحاك عن ابن عباس.

والثالث: مِنْ قَبْل موسى وهارون، قاله الضحاك. وقد أشرنا إِلى قصة إِبراهيم في [الأنعام: 75].

قوله تعالى: { وكُنَّا به عالِمين } أي: علمنا أنه موضع لإِيتاء الرُّشد. ثم بيَّن متى آتاه فقال: { إِذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل } يعني: الأصنام. والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبَّهاً بِخَلْق من خَلْق الله تعالى، وأصله من مثَّلث الشيء بالشيء: إِذا شبَّهته به. وقوله: { التي أنتم لها } أي: على عبادتها { عاكفون } أي: مقيمون، فأجابوه أنهم رأوا آباءهم يعبدونها فاقتدَوا بهم، فأجابهم بأنهم فيما فعلوا وآباءَهم في ضلال مبين، { قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } يعنون: أجادٌّ أنتَ، أم لاعب؟!

قوله تعالى: { لأكيدنَّ أصنامكم } الكيد: احتيال الكائد في ضرّ المكيد. والمفسرون يقولون: لأكيدنها بالكسر { بعد أن تُوَلُّوا } أي: تذهبوا عنها، وكان لهم عيد في كل سنة يخرجون إِليه ولا يخلِّفون بالمدينة أحداً، فقالوا لإِبراهيم: لو خرجتَ معنا إِلى عيدنا أعجبكَ دِيننا، فخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق، قال: إِني سقيم، وألقى نفسه، وقال سِرّاً منهم: «وتالله لأكيدنَّ أصنامكم»، فسمعه رجل منهم، فأفشاه عليه، فرجع إِلى بيت الأصنام، وكانت ـ فيما ذكره مقاتل بن سليمان ـ اثنين وسبعين صنماً من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب، فكسرها، ثم وضع الفأس في عنق الصنم الكبير، فذلك قوله: { فجعلهم جُذاذاً } قرأ الأكثرون: «جُذاذاً» بضم الجيم. وقرأ أبو بكر الصدّيق، وابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، والأعمش، والكسائي: «جِذاذاً» بكسر الجيم. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وأيوب السختياني، وعاصم الجحدري: «جَذاذاً» بفتح الجيم. وقرأ الضحاك، وابن يعمر: «جَذذاً» بفتح الجيم من غير ألف. وقرأ معاذ القارىء، وأبو حيوة، وابن وثَّاب: «جُذذاً» بضم الجيم من غير ألف. قال أبو عبيدة: أي: مستأصَلين، قال جرير:
بَني المهلَّب جَذَّ اللهُ دَابِرَهُم   أَمْسَوْا رَمَاداً فلا أصلٌ ولا طَرَفُ
أي: لم يَبْقَ منهم شيء، ولفظ «جُذاذ» يقع على الواحد والاثنين والجميع من المذكَّر والمؤنَّث. وقال ابن قتيبة: «جُذاذاً» أي: فُتاتاً، وكلُّ شيء كسرتَه فقد جَذَذْتَه، ومنه قيل للسَّويق: الجذيذ. وقرأ الكسائي: «جِذاذاً» بكسر الجيم على أنه جمع جَذيذ، مثل ثَقيل وثِقال، وخَفيف وخِفاف. والجذيذ بمعنى: المجذوذ، وهو المكسور. { إِلا كبيراً لهم } أي: كسر الأصنامَ إِلا أكبرها. قال الزجاج: جائز أن يكون أكبرها في ذاته، وجائز أن يكون أكبرها عندهم في تعظيمهم إِياه، { لعلَّهم إِليه يَرْجِعون } ، في هاء الكناية قولان.

أحدهما: أنها ترجع إِلى الصنم. ثم فيه قولان.

أحدهما: لعلهم يرجعون إِليه فيشاهدونه، هذا قول مقاتل.

والثاني: لعلهم يرجعون إِليه بالتهمة، حكاه أبو سليمان الدمشقي.

والثاني: أنها ترجع إِلى إِبراهيم. والمعنى: لعلهم يرجعون إِلى دين إِبراهيم بوجوب الحُجَّة عليهم، قاله الزجاج.