الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }

قوله تعالى: { مثلهم كمثَل الذي اسْتوقد ناراً }.

هذه الآية نزلت في المنافقين. والمثل بتحريك الثاء: ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال. وفي قوله تعالى«استوقد» قولان.

أحدهما: أن السين زائدة، وأنشدوا:
وداعٍ دعا يا من يجيب إِلى الندى   فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أراد: فلم يجبه، وهذا قول الجمهور، منهم الأخفش وابن قتيبة.

والثاني: أن السين داخلة للطلب، أراد: كمن طلب من غيره ناراً.

قوله تعالى: { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون }.

وفي«أضاءت» قولان: أحدهما: أنه من الفعل المتعدي، قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم   دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وقال آخر:
أضاءت لنا النار وجهاً أغرَّ   ملتبساً بالفؤاد التباسا
والثاني: أنه من الفعل اللازم. قال أبو عبيد: يقال أضاءت النَّار، وأضاءها غيرها. وقال الزجاج: يقال: ضاء القمر، وأضاء.

وفي «ما» قولان. أحدهما: أنها زائدة، تقديره: أضاءت حوله. والثاني: أنها بمعنى الذي. وحول الشَّيء: ما دار من جوانبه. والهاء: عائدة على الْمستوقد. فان قيل: كيف وحد. فقال: « كمثل الذي استوقد» ثم جمع فقال: « ذهب الله بنورهم»؟ فالجواب: أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال: إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان الرجال، وهو مثل للنفاق، وإنما قال: «ذهب الله بنورهم» لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين، فجمع لذلك. قال ثعلب: وقال غير الفراء: معنى الذي: الجمع، وحد أولاً للفظه، وجمع بعد لمعناه، كما قال الشاعر:
فان الذي حانت بفلج دماؤهم   هم القوم كلُّ القوم يا أم خالد
فجعل «الذي» جمعاً.

فصل

اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين. أحدهما: أنه ضرب بكلمة الإِسلام التي يلفظون بها، ونورها صيانة النفوس وحقن الدماء، فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النَّار ضوءه. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني: أنه ضرب لإِقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول، فذهاب نورهم: إِقبالهم على الكافرين والضلال، وهذا قول مجاهد.

وفي المراد بـ «الظلمات» هاهنا أربعة أقوال. أحدها: العذاب، قاله ابن عباس، والثاني: ظلمة الكفر، قاله مجاهد. والثالث: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت؛ قاله قتادة. والرابع: أنها نفاقهم، قاله السدي.

فصل

وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم.

إحداها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فاذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم؛ كان نور إيمانهم كالمستعار.

والثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب، فهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إِلى مادة الاعتقاد ليدوم.

والثالثة: أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء، فشبه حالهم بذلك.