الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ }

قوله تعالى: { ومن يرغب عن ملة إِبراهيم }

سبب نزولها أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه مهاجراً وسلمة إلى الإسلام، فأسلم سلمة، ورغب عن الإسلام مهاجر، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قال الزجاج: و «من» لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ. والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نسفه. ويقال: رغبت في الشيء: إذا أردته. ورغبت عنه: إذا تركته. وملة إبراهيم: دينه.

قوله تعالى: { إِلا من سفه نفسه } فيه أربعة أقوال. أحدها: أن معناه: إلا من سفّه نفسه، قاله الأخفش ويونس. قال يونس: ولذلك تعدى إلى النفس فنصبها، وقال الأخفش: نصبت النفس لإسقاط حرف الجر، لأن المعنى: إلا من سفه في نفسه.

قال الشاعر:
نغالي اللحم للأضياف نيئاً   ونرخصه إذا نضج القدور
والثاني: إلا من أهلك نفسه، قاله أبو عبيدة. والثالث: إلا من سفهتْ نفسُه، كما يقال: غبن فلان رأيه، وهذا مذهب الفراء وابن قتيبة. قال الفراء: نقل الفعل عن النفس إلى ضمير «من»، ونصبت النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال: ضقت بالأمر ذرعاً، يريدون: ضاق ذرعي به، ومثله:واشتعل الرأس شيبا } [مريم: 4]. والرابع: إلا من جهل نفسه، فلم يفكر فيها، وهو اختيار الزجاج.

قوله تعالى: { وإِنه في الآخرة لمن الصالحين } قال ابن الأنباري: لمن الصالحي الحال عند الله تعالى. وقال الزجاج: الصالح في الآخرة: الفائز.

قوله تعالى: { إِذ قال له ربه أسلم } وذلك حين وقوع الاصطفاء، قال ابن عباس: لما رأى الكوكب والقمر والشمس، قال له ربه أسلم، أي: أخلص.

قوله تعالى: { ووصَّى } قرأ ابن عباس وأهل المدينة: { وأوصى } بألف، مع تخفيف الصاد، والباقون بغير ألف مشددة الصاد، وهذا لاختلاف المصاحف. أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا ثابت، قال: أخبرنا ابن قشيش، قال: أخبرنا ابن حيَّويه، قال: حدثنا ابن الأنباري، قال: أخبرنا ثعلب، قال: أملى عليَّ خلف بن هشام البزار قال: اختلف مصحفا أهل المدينة وأهل العراق في اثني عشر حرفاً: كتب أهل المدينة { وأوصى } وأهل العراق { ووصّى } وكتب أهل المدينة:سارعوا إلى مغفرة من ربكم } [آل عمران:133]. بغير واو وأهل العراق: { وسارعوا } وكتب أهل المدينة:يقول الذين آمنوا } [المائدة: 56] وأهل العراق: { ويقول } وكتب أهل المدينة:من يرتدد } [المائدة: 57] وأهل العراق { من يرتدَّ } وكتب أهل المدينة:الذين اتخذوا مسجداً } [التوبة:108]. و أهل العراق { والذين } وكتب أهل المدينة:خيراً منهما منقلباً } [الكهف:37] و أهل العراق: { منها } وكتب أهل المدينة:فتوكل على العزيز الرحيم } [الشعراء: 217]. و أهل العراق: { وتوكل } وكتب أهل المدينة:وأن يظهر في الأرض الفساد } [المؤمن:26]. وأهل العراق: { أو أن يظهر } وكتب أهل المدينة في «حم عسق»: { بما كسبت أيديكم } بغير فاء، وأهل العراق: { فبما } وكتب أهل المدينة:ما تشتهيه الأنفس } [الزخرف:71] بالهاء و أهل العراق: { ما تشتهي } وكتب أهل المدينة:فان الله الغني الحميد } [الحديد:26] و أهل العراق: { إِن الله هو الغني الحميد } وكتب أهل المدينة:فلا يخاف عقباها } [الشمس:15] و أهل العراق: { ولا يخاف }.

ووصّى أبلغ من أوصى، لأنها تكون لمرات كثيرة، وهاء «بها» تعود على المسألة. قاله عكرمة والزجاج. قال مقاتل: وبنوه أربعة: إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومدائن. وذكر غير مقاتل أنهم ثمانية.

قوله تعالى: { فلا تموتنَّ إِلا وأنتم مسلمون } يريد: الزموا الإسلام، فاذا أدرككم الموت صادفكم عليه.