الرئيسية - التفاسير


* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } * { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } * { وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً }

قوله تعالى: { ويجادل الذين كفروا بالباطل } قال ابن عباس: يريد: المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم. وجدالُهم بالباطل: أنهم ألزموه أن يأتيَ بالآيات على أهوائهم { ليُدْحِضُوا به الحق } أي: ليُبْطِلوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: جدالُهم: قولُهم:أإِذا كُنّا عظاماً ورُفاتاً } [الإسراء 49]،أإِذا ضللنا في الأرض } [السجدة: 10]، ونحو ذلك ليبطلوا به ما جاء في القرآن من ذِكْر البعث والجزاء. قال أبو عبيدة: ومعنى «ليُدْحِضوا»: ليُزِيلوا ويذهبوا، يقال: مكان دَحْض، أي: مَزَلٌّ لا يثبت فيه قدم ولا حافر.

قوله تعالى: { واتَّخَذُوا آياتي } يعني القرآن. { وما أُنْذِروا } أي: خُوِّفوا به من النار والقيامة { هُزُواً } أي: مهزوءاً به.

قوله تعالى: { ومن أظلم } قد شرحنا هذه الكلمة في [البقرة: 114]. و { ذُكِّر } بمعنى: وُعِظ. وآياتُ ربِّه: القرآن، وإِعراضُه عنها: تهاونُه بها. { ونسي ما قدَّمت يداه } أي: ما سلف من ذنوبه؛ وقد شرحنا ما بعد هذا في [الأنعام: 21] إِلى قوله: { وإِن تدعُهم إِلى الهُدى } وهو: الإِيمان والقرآن { فلن يهتدوا } هذا إِخبار عن عِلْمه فيهم.

قوله تعالى: { وربُّك الغفور ذو الرحمة } إِذ لم يعاجلهم بالعقوبة. { بل لهم موعد } للبعث والجزاء { لن يجدوا من دونه موئلا } قال الفراء: الموئل: المنجى، وهو الملجأ في المعنى، لأن المنجى ملجأٌ. والعرب تقول: إِنه لَيُوائل إِلى موضعه، أي: يذهب إِلى موضعه، قال الشاعر:
لاوَاءَلَتْ نَفْسُكَ خَلَّيْتَها   للعامِرِيّيْن، وَلمْ تُكْلَمِ
يريد: لا نجت نفسك، وأنشد أبو عبيدة للأعشى:
وَقَدْ أُخالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتَهُ   وقَدْ يُحاذِرُ مِنِّي ثَمَّ مَايَئِلُ
أي: ما ينجو. وقال ابن قتيبة: الموئل: الملجِأ. يقال: وأل فلان إِلى كذا: إِذا لجأ.

فإن قيل: ظاهر هذه الآية يقتضي أن تأخير العذاب عن الكفار برحمة الله، ومعلوم أنه لا نصيب لهم في رحمته.

فعنه جوابان.

أحدهما: [أن] الرحمة هاهنا بمعنى النعمة، ونعمة الله لا يخلو منها مؤمن ولا كافر. فأما الرحمة التي هي الغفران والرضى، فليس للكافر فيها نصيب.

والثاني: أن رحمة الله محظورة على الكفار يوم القيامة، فأما في الدنيا، فإنهم ينالون منها العافية والرزق.

قوله تعالى: { وتلك القرى } يريد: التي قصصنا عليكَ ذِكْرها، والمراد: أهلها، ولذلك قال: { أهلكناهم } والمراد: قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب. قال الفراء: قوله: { لَمّا ظَلَموا } معناه: بعدما ظَلَموا.

قوله تعالى: { وجعلنا لمهلكهم } قرأ الأكثرون بضم الميم وفتح اللام؛ قال الزجاج: وفيه وجهان.

أحدهما: أن يكون مصدراً، فيكون المعنى: وجعلنا لإِهلاكهم.

والثاني: أن يكون وقتاً، فالمعنى: لوقت هلاكهم.

وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم واللام، وهو مصدر مثل الهلاك. وقرأ حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام، ومعناه: لوقت إِهلاكهم.